الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
من سمات المجتمع الإسلامي التعاون والتعاطف والتراحم، وخصوصاً مع المرضى، حيث إن إنقاذ المرضى من أفضل الصدقات ومنها التبرع بالدم، الذي يعد واجبًا شرعيًا، وله فوائد عديدة للمتبرع ابتداءً، وخير وأجر عظيم من رب العالمين.
«الجزيرة» التقت مع عدد من المختصين في العلوم الشرعية والطبية ليتحدثوا عن فضائل ذلك، وكيفية ترسيخ هذا المنهج الجميل والسلوك النبيل في المجتمع، فماذا قالوا؟.
الأجر العظيم
يبدأ الدكتور صالح بن محمد اليابس الأستاذ المشارك بقسم الدراسات الإسلامية بكلية العلوم والدراسات الإنسانية بالقويعية حديثه بقول: أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما كلب يُطِيفُ بركِيَّةٍ كاد يقتله العطش، إذ رأتْه بغيٌّ مِن بَغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها فسَقَتْه، فغُفرَ لها به) رواه البخاري ومسلم.
غفر الله لامرأة مومسة، مرت بكلب كاد يقتله العطش فسقته وأنقذته من الهلاك، فكيف بمن يكون سببًا في إنقاذ حياة إنسان من الهلاك، لا شك أن الأجر أعظم، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة» رواه البخاري، ومن الوسائل التي يسرها الله في هذا الزمان لإنقاذ الأرواح وتفريج الكرب ونفع الناس التبرع بالدم، فمن كان في صحة وعافية وكان التبرع لا يضره، فمن أبواب الخير التي يمكن أن يسلكها ومن أفضل الصدقات التي يقدمها المؤمن، وقد تكون سببًا في نجاته ودخوله الجنة التبرع بالدم، لا سيما إذا أخلص المتبرع النية واتصف بصفة الأبرار التي ذكرها الله في كتابه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا.
عظمة الإسلام
ويقول الدكتور مقبل بن مريشد الحربي الأستاذ بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن مما يميز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات الأخرى أن رسخ بين أفراده حقوقاً وآداباً وقيماً من التعاون على البر والتقوى والتراحم والتعاطف والتواد وحسن الخلق في التعامل والعطف على المسكين والرحمة بالفقير وكفالة اليتيم ورعاية المريض والعدل والإنصاف في القول والعمل وحرمة التعدي على الدم والمال والعرض ونبذ ما خفي من السوء في القلوب من البغض والحسد والغل والحقد،، ولا يكمل إيمان المؤمن إلا أن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه من الخير، روى مسلم في صحيحه من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
وهذا التواد والتعاطف والتراحم في حق المرضى أعظم وآكد ومن ذلك زيارته عند مرضه وتسليته بالكلام الطيب ونفعه بالمال إن كان محتاجًا إليه، والتبرع إليه بشيء من دمه إن كان مضطراً إليه وتتوقف حياته على قطرات منه، وهذا يدل على عظمة الإسلام وإحكام الله تعالى لشرعه، حتى يكون المجتمع لحمة واحدة ومنظومة متكاملة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».
قطرة الدم المنقذة
ومن الناحية الطبية يقول الدكتور مازن كراوي استشاري المختبر: يجول في شرايين وأوردة الإنسان البالغ 6-8 لتر من الدم حاملة الغذاء والطاقة والأوكسجين إلى كل أعضاء وأجهزة الإنسان وناقلة مخلفات عمليات بناء الجسم وإنتاج الطاقة وغاز الكربون إلى أعضاء الجسم الطارحة للسموم والمخلفات (الرئة والكبد والكلية)، كما يؤدي الدم دوراً في نقل الإشارات الكيميائية المنظمة لعمل أعضاء الجسم بين مختلف الأعضاء المنتجة لها والمتأثرة بها، ويتألف الدم من قسمين: قسم سائل يسمى البلازما يحمل المواد الغذائية المختلفة اللازمة لبناء خلايا جسم الإنسان ومركبات كيميائية تعمل كناقل للإشارة ووسيلة اتصال بين مختلف الأعضاء والخلايا بالإضافة لبروتينات جهاز تخثر الدم التي تعمل كمرقية لأي وعاء يتعرض للثقب لإيقاف النزيف وفقد الدم.
أما القسم الثاني: الخلوي فيتشكل من خلايا مسؤولة عن جهاز المناعة هي كريات الدم البيضاء وخلايا صغيرة هي الصفيحات تعمل كعامل أساسي في جهاز تخثر الدم وكريات الدم الحمراء ناقل الأوكسجين والكربون.ويبين الدكتور مازن كراوي بأن كريات الدم الحمراء تعيش من شهر إلى شهرين، وكريات الدم البيضاء المحببة بضعة أيام، بينما تعيش اللمفاوية لمدة طويلة وهي تمثل الذاكرة المناعية للجسم، أما الصفيحات فتعيش 4 إلى 7 أيام، في فقر الدم المزمن ينخفض عديد خلايا الدم الحمراء عن العدد اللازم لعمل أعضاء الجسم المختلفة بشكل سليم، وفي أمراض أخرى تتأثر خلايا الدم البيضاء ما يؤثر على جهاز المناعة، والصفيحات ما يؤثر على وظيفة تخثر الدم ويعرض الإنسان لنزف داخلي، يحاول الجسم جاهداً تعويض هذا النقص لكن في الكثير من الأحيان يلزم نقل دم من متبرع للحفاظ على حياة وصحة المريض، أما في الحوادث الطارئة التي ينجم عنها نزف شديد كحوادث السير والإصابات الرضية والنزف بعد الولادة أو عند إجراء عمل جراحي تتأثر أعضاء الجسم الحيوية لاسيما الدماغ والقلب بشدة وبسرعة للنقص في الأوكسجين والطاقة ولانخفاض ضغط الدم ما يعرض حياة الإنسان ووظائفه الحيوية للخطر خلال دقائق ما يوجب النقل السريع للدم لإنقاذ حياته.
التأكد من سلامة المتبرع
ويشير الدكتور مازن كراوي استشاري المختبرات الطبية أن بنوك الدم تعمل على جمع الدم من متبرعين وفحصه للتأكد من خلوه من أي عوامل معدية والتأكد من ملاءمته للمتبرع قبل نقله عند الحاجة إليه، لا يسمح الشرع الإسلامي ولا قوانين المملكة (وقوانين الكثير من الدول) بالمتاجرة بالدم: أي جمعه من متبرعين لقاء عائد مادي، ويبقى المصدر الرئيسي له هو التبرع الإرادي لعمل الخير أو التبرع من أهل وأصدقاء المريض، ويعمل بنك الدم على التأكد من قدرة المتبرع على التبرع بدمه حيث يجب عليه الإجابة على العديد من الأسئلة ثم يفحص طبياً ويتم التأكد من عمره ووزنه وخلوه من الأمراض ومن وجود كمية كافية من خضاب الدم عنده تسمح له بالتبرع، كما يطلب منه أن يؤكد موافقته الواعية خطياً لذلك بعد أن يتم شرح كل ما يجب معرفته للتبرع، ويمكن للإنسان البالغ الصحيح الجسم التبرع حتى نصف لتر من دمه دون أي تأثير على صحته ونشاطه، قد تظهر أحياناً بعض الأعراض من دوار وتعب لكن سرعان ما تزول وغالباً ما تعود لتأثير عصبي نفسي، وبعد التبرع يتلقى نخاع العظم (وهو النسيج المسؤول عن إنتاج خلايا الدم) إشارات عن الحاجة لتعويض الدم المفقود فيقوم بتنشيط توليد خلايا دم جديدة تعوض المفقود خلال أيام بخلايا أكثر نشاطاً وحيوية في تأدية المهام المطلوبة منها، وفي مستشفيات الحمادي نقول لزائيرنا من المواطنين والمقيمين أنه بإمكانك في وقت صحتك أن تمنح غيرك فرصة للحياة، بضع دقائق لا تتجاوز 10-15 دقيقة (وهو الوقت اللازم للتبرع) يمكنك فيها أن تنقذ روح مريض، وأثناء قراءتك لهذه السطور قد يكون هناك مريض يعاني من مرض خطير أو مصاب بحادث وتعتمد حياته على توفر وحدة دم مطابقة لنوع دمه، قد لا يحتاج معظمنا لنقل دم طوال حياته لكن بالنسبة للبعض قد تعني قطرة الدم الفرق بين الحياة والموت، وأخيراً نقول تذكر قوله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.