عبدالرحمن الحبيب
«إنها لحظة فاصلة في تاريخ الاقتصاد العالمي.. سيكون لعزلة روسيا الاقتصادية تداعيات مأساوية على الاقتصاد العالمي». هذا ما قاله نيكولاس مولدر (جامعة كورنيل) الباحث في العقوبات الاقتصادية، موضحاً أنه لم يسبق أن واجه أي من بلدان مجموعة العشرين مثل هذه العقوبات الاقتصادية الصارمة، ولا بهذه السرعة الزمنية القصيرة. يقول مولدر: «السلاح الاقتصادي هو حساب هائل لتاريخ العقوبات وتأثيرها العميق على السياسة الدولية».
لم يكد الاقتصاد العالمي يتعافى من تداعيات كورونا ويفيق من ضربة الجائحة، حتى باغتته ضربة أخرى من خلال تداعيات العقوبات الاقتصادية على روسيا، إذ تواجه الشركات التي أعلنت أنها ستغادر روسيا مهمة عسيرة تتمثل في تداعيات المغادرة الفعلية؛ فمثلاً، حذرت شركة إكسون موبيل من أنه سيكون من غير الآمن التخلي فجأة عن مشروع النفط الذي تديره في أقصى شرق روسيا، بينما تخشى بعض الدول من مصادرة أصول الشركات الغربية التي تغادر روسيا حسب تقرير لمجلة الإيكونيميست.
إذا كان الهجوم الروسي على أوكرانيا هو أكبر عمل عسكري في أوروبا منذ عام 1945، فإن العقوبات الغربية على روسيا لم يشهد العالم مثلها، وهي أقوى الأدوات التي تجرأ الغرب غير الراغب في مواجهة خصم نووي في ساحة المعركة على استخدامها لكنه مارسها بحدة لعزل روسيا عن الشرايين المالية في العالم، فلم يتعرض أي اقتصاد كبير في العالم الحديث لضربة شديدة بمثل هذه العقوبات، مما قد يضعف النظام العالمي الذي من المفترض أن يدافعوا عنه (الإيكونيميست).
الشركات متعددة الجنسيات تتصارع مع عالم متصدع، إذ تظل الأسواق الخارجية ضرورية للعديد من الشركات الأمريكية؛ ففي عام 2020 وفرت الأسواق الخارجية 28 % من عائدات أكبر 500 شركة أمريكية، وفقًا لـ Goldman Sachs. أما صناعة التكنولوجيا الخارجية فهي تواجه أزمة بشكل خاص، حيث تحقق 58 % من الإيرادات في الخارج. وكانت الشركات الأمريكية تواصل مطاردة الفرص بعيداً عن أمريكا؛ ففي العام الماضي، ألهمت أسعار الفائدة المنخفضة ووفرة السيولة الشركات الأمريكية لإنفاق 506 مليار دولار على عمليات الاندماج والاستحواذ الأجنبية، أي أكثر من ضعف المبلغ في 2020 أو 2019، وفقًا لشركة Dealogic للبيانات. أما في الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، فقد تجاوز صافي الاستثمار الأجنبي المباشر المستوى السنوي لعام 2020.
إنها حقبة جديدة من الحرب الاقتصادية عالية المخاطر التي يمكن أن تزيد من انقسام الاقتصاد العالمي؛ فالعقوبات على روسيا قوية لدرجة أنها أحدثت فوضى في اقتصادها البالغ 1.6 تريليون دولار ودفعت الرئيس بوتين إلى إصدار تهديدات نووية حسب تقرير الإيكونيميست الذي يذكر أن روسيا لم تأخذ التهديد بفرض عقوبات على محمل الجد في البداية لأنها غير فعالة ولا تحدث إلا فرقًا طفيفًا...
العقوبات الغربية ستؤثر بشدة في الأسابيع المقبلة، مع تباطؤ الواردات إلى روسيا وندرة العملة الصعبة، وسيحصل ارتباك للاقتصاد العالمي: فكيف ستتعامل الشركات الأمريكية مع هذه التغييرات؟ وفي الصين كيف يمكن أن تنمو تجارتها مع روسيا؟ وفي ارتفاع أسعار المواد الغذائية كالقمح مثلاً حيث روسيا وأوكرانيا من كبار المصدرين فكيف سيؤثر ذلك على المستوردين، خاصة الدول الفقيرة؟ وهل تعيد أوروبا النظر في مستقبل طاقتها مع ارتفاع أسعار الطاقة واضطراب أسواق الغاز مما يؤدي إلى توقف أو تقليص استيرادها الغاز الروسي؟
يذكر تقرير آخر للإيكونيميست أنه بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات، فإنها تتعرض لمخاطر شديدة ليس في روسيا فحسب بل حتى خارجها. البلدان التي استخدمت التجارة سابقاً لتسهيل العلاقات مع المنافسين الجيواستراتيجيين صارت تستخدم بشكل متزايد التعرفات والعقوبات لتقويض الخصوم المتصورين. وكذلك السياسيون الذين كانوا يدافعون عن العولمة من بكين إلى بروكسل صاروا يطالبون أن تحمي السياسة الصناعية اقتصاداتهم من الضغوط الخارجية، سواء كانت حربًا أو وباءً أو تنافسًا جيوسياسيًا، حتى أن الرئيس الأمريكي استخدم خطابه الأخير لتمجيد مزايا الحمائية، قائلاً: «بدلاً من الاعتماد على سلاسل التوريد الأجنبية، دعونا نجعلها في أمريكا».
مع تغير قواعد التجارة العالمية، تتغير أكبر الشركات الأمريكية أيضًا.. منذ وقت ليس ببعيد بدت الشركات متعددة الجنسيات في حيرة من أمرها. بشر انهيار جدار برلين عام 1989 بدخول الكتلة السوفيتية إلى نظام التجارة العالمي. عند توقيع اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية عام 1993، تنبأ بيل كلينتون بطفرة تصدير للأعمال التجارية الأمريكية. وقال المؤيدون لانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 أن ذلك من شأنه مساعدة أمريكا على الاستفادة من سوق الصين الضخم وجعل الحزب الشيوعي أقل نزعة تجارية.. لكن تبين للشركات الأمريكية، أن العالم لم يكن طبقاً شهياً بلا حدود..
إذا كانت التداعيات مؤثرة على الاقتصاد العالمي فهي هائلة على روسيا، فحسب تيموثي آش من شركة BlueBay Asset Management فالأسواق الروسية تشهد باستحالة «الاعتماد على الذات» اقتصادياً.. فعلى مدى سنوات، نجح الرئيس بوتين في بناء الدفاعات الاقتصادية لروسيا لمقاومة العقوبات الغربية.. إنها إستراتيجية «حصن روسيا».. يقول السيد آش: «يبدو أن هذا الحصن تحول إلى أنقاض..». إلا أن الأسابيع المقبلة قد تجلي الغموض في المشهد العالمي..