د. غسان محمد علوان
تُعَبِّر الاستراتيجية الجديدة للابتعاث التي أطلقها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - عن حرص القيادة السعودية على تدارُك المتغيرات المستجدة والمتسارعة لدى القطاعات الاقتصادية المختلفة بالمملكة وسبل مواكبة الصناعات والقطاعات الناشئة والحديثة المختلفة، لتكون داعماً أساسياً للمملكة واقتصادها بالمستقبل.
وحيث إن عالم المعرفة والتكنولوجيا متجدد ومتسارع وبشكل أوجد محركات اقتصادية جديدة تعتبر الآن داعمة أساسية لاقتصاديات العديد من الدول المتقدمة، فإن المملكة ومن خلال الاستراتيجية الجديدة، ستسعى للبدء في تهيئة وتمكين العنصر البشري السعودي في امتلاك المعرفة والمهارة والخبرة الكافية لدى هذه القطاعات المستجدة؛ لتكون المملكة سباقة في احتواء هذه القطاعات والصناعات من ناحية توفير العنصر البشري السعودي ذي الكفاءة العالية لها، ولتلبية احتياجات المستقبل المتجددة، ولتكون مساهمة في زيادة الناتج القومي السعودي في المستقبل.
تعد الاستراتيجية الجديدة للابتعاث واعدة من حيث التركيز على رأس المال البشري في القطاعات الجديدة وذلك لتحقيق مستهدفات الرؤية. ولكن على الرغم من أن المفهوم الأساسي للاستراتيجية الجديدة للابتعاث مبني على العنصر البشري ومدى قدرته على احتواء القطاعات الاقتصادية الناشئة والمستجدة وقدرته على تلبية احتياجات المملكة في المستقبل، فإن إدارة هذه الاستراتيجية، وكفاءة القيادات المسؤولة عن تنفيذها ستشكل التحدي الأكبر لهم في ظل المتغيرات الجديدة والمتسارعة التي تشهدها المملكة والعالم.
ولتحقيق الاستراتيجية الجديدة الخاصة بالابتعاث أهدافها، يتطلب على من تقع على عاتقهم مسؤولية التنفيذ أن يسعوا إلى تأسيس أطر حوكمة وإدارة جديدة Governance and Management Framework- GMF بهدف تفعيل الاستراتيجية الجديدة على أرض الواقع، وبشكل يضمن فاعلية وسلامة تنفيذها.
ويتشكل إطار العمل الجديد من قواعد ومفاهيم تستوجب العمل عليها بشكل جماعي وبتنسيق وتشاور عالٍ من قبل الجهة المسؤولة عن تنفيذ الاستراتيجية مع العديد من الأطراف كوزارة الخدمة المدنية، ووزارة المالية، وكافة هيئات القطاع العام والخاص لدى القطاعات الاقتصادية المختلفة بالمملكة والملحقيات الثقافية المنتشرة في دول الابتعاث.
وتعد الملحقيات الثقافية المنتشرة عبر العالم من أهم المؤسسات التي سيكون لها دور فاعل في هذا الشأن؛ كون عملها مرتبطاً بالركيزة الثالثة من الاستراتيجية والتي تشير إلى المتابعة والرعاية للمبتعثين، وذلك عن طريق تقديم خدمات الإرشاد للمبتعثين والمساهمة في توفير وتهيئة المبتعثين لسوق العمل ومساعدتهم في الحصول على فرص تدريب بمقر الابتعاث، وهذا من شأنه أن يستدعي إعادة هيكلة أعمال الملحقيات الثقافية لتوائم مهامها متطلبات الاستراتيجية الجديدة للابتعاث.
ويعد تحديد المخاطر والتحديات التي سترافق تنفيذ الاستراتيجية الجديدة من ضمن الأولويات التي تستوجب على الجهات المسؤولة المنفذة التعامل معها، ومنها مثلاً التعاطي مع المتغيرات التي تنشأ مع المؤسسات التعليمية المنضوية بأحد المسارات كمسار الرواد أو البحث والتطوير، ومنها تغير التصنيف العالمي للمؤسسات التعليمية الدولية المنضوية بالاستراتيجية الجديدة أو حدوث خلاف دبلوماسي مع إحدى الدول كما حصل مع كندا سابقاً، والحاجة للنظر في كيفية التعامل مع الطلبة والمؤسسات التعليمية في ضوئه، وهو ما يستدعي العمل على تحديث أطر الحوكمة والإدارة GMF للاستراتيجية الجديدة مرة كل عام على الأقل وبشكل يضمن فاعلية التنفيذ.
ويأتي وضع ترتيبات مناسبة لأنماط الاتصال بين جهة الاختصاص بتنفيذ الاستراتيجية الجديدة مع الجهات المختلفة ذات العلاقة من ضمن الإجراءات الأساسية لضمان الجودة وللمساهمة في تحقيق الأهداف التشغيلية. ويعد تأسيس نظام حوكمة شبكي (A Networked Governance Model) مهم للغاية في دعم الإجراءات الخاصة بالمسارات الأربعة؛ بهدف تقديم الخدمات والمتابعة والتقييم لكل مسار. وتكمن أهمية هذا النظام في سرعة وفعالية استجابته للمتطلبات التشغيلية للمسارات الأربعة (الرواد، البحث والتطوير، إمداد، وواعد) وفي مساهمته في تحقيق الأهداف الفرعية لكل مسار بالاستراتيجية الجديدة؛ كون هذه المسارات لها مخرجات مختلفة، منها ما هو مرتبط بسوق العمل، ومنها ما هو مرتبط بالبحث العلمي أو بردف قطاعات اقتصادية محددة كقطاع السياحة أو الصناعة وغيرها بعناصر بشرية قادرة.
ويمنح نظام الحوكمة الشبكي NGM حدوث مستوى عالٍ من التنسيق والتعاون على مستوى تقديم الخدمات للمسارات الأربعة وبشكل عمودي على كافة مستويات الهياكل الإدارية المختلفة للجهات ذات العلاقة وخصوصاً بين الوزارة والملحقيات الثقافية.
ويعد حشد المهارات والموارد اللازمة لدعم التنفيذ السريع والفعال للاستراتيجية الجديدة للابتعاث من الإجراءات الواجب المحافظة عليها؛ كونها تضمن توفير كوادر قادرة على التنفيذ وتستطيع مواجهة التحديات، ولهذا السبب، يستوجب وضع سياسة توظيف أو تعيين Recruitment Policy واضحة تشمل المسمى الوظيفي لكل وظيفة والمسؤوليات والمهام ومتطلبات وشروط التعيين في المستوى المتوسط والأدنى من الهياكل الإدارية المختلفة، بالإضافة إلى تحديد الصلاحيات للمستويات الإدارية العليا ومعايير وقواعد تحدد لهم مهامهم بدقة ومستوى المسائلة في التحقق من مدى الإنجاز كلاً حسب موقعه.
وأخيراً يعد التوثيق وتطبيق عمليات التقييم المعتمدة في التنفيذ من بين أهم الإجراءات الواجب الالتزام بها لضمان جودة العمل وللمساعدة في تحديد المسارات التنفيذية المختلفة التي تحتاج إلى بعض التصويب أو التحديث لاحقاً. وبغض النظر عن مدى فاعلية إجراءات ضمان الجودة، فعلى المسؤولين عن سلامة وتنفيذ الاستراتيجية الجديدة للابتعاث أن يستمروا في التركيز على تحقيق الأهداف الأساسية للاستراتيجية عند التنفيذ وتوثيق كافة الإجراءات المصاحبة لذلك.
وحيث نرى أن الاستراتيجية الجديدة واعدة من ناحية المحتوى والتوقيت، وبارتكازها على العنصر البشري كأساس صلب لبناء الوطن، إلا أن التحدي سيكون في التنفيذ، وعليه فإنه يتوجب على من سيتولون المسؤولية أن يبذلوا ما بوسعهم لتحقيق مخرجات هذه الاستراتيجية وبالشكل الذي يضمن نجاحها.
وبرأيي الشخصي، سيكون هذا التحدي الأكبر الذي سيواجه مَن يتولى مهام ومسؤولية التنفيذ.
** **
- خبير بأنظمة حوكمة التعليم العالي / أستراليا