اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
بداية، أحسب أن الجميع يتفق معي في أننا ينبغي علينا جميعاً أن نعبِّر عن جزيل شكرنا، وصادق تقديرنا، وموفور عرفاننا وامتناننا لحامل لوائنا اليوم، خادم الحرمين الشريفين، سيِّدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ملك الحزم والعزم والحسم والرأي السديد والفكر المتقدم، مستودع إرثنا التاريخي، الحضاري والثقافي، وذاكرة وطننا التي لا تشيخ ولا تصل إليها يد النسيان أبداً، على هذه اللفتة الكريمة، التي تمثلت في إصدار هذا القرار التاريخي بالاحتفاء بيوم تأسيس بلادنا الطيبة المباركة هذه، دولة الرسالة السامية العظيمة الخالدة، وأرض البطولات الفريدة النادرة، التي حققت إنجازات أشبه ما تكون بالمعجزات خلال ثلاثة قرون من العمل التراكمي والإبداع والإنجاز، فأضحت بلاداً عزيزة غالية، ليس مثلها في الدنيا وطن.. فالاحتفاء بهذا اليوم المشرق في تاريخنا المجيد هو احتفاء بتاريخ دولة، وتلاحم شعب، والصمود أمام كل التحديات، والتطلع للمستقبل، كما أكد حامل لوائنا اليوم ملكنا المفدى سلمان صاحب هذا القرار التاريخي الذي يؤكد وفاءه، وصدق انتمائه، وفخره واعتزازه بالعمق التاريخي لهذه الدولة الفتية؛ الأمر الذي يعد لسان حال كل سعودية تنعم بالحياة على ثراه الطيب المبارك وكل سعودي.
كما انتهز هذه السانحة لأناشد الإخوة المؤرخين والباحثين والمهتمين بتاريخنا من عرب وعجم، أن يكون لهم في هذا القرار السامي الكريم دعوة كريمة جادة، وباعث حقيقي، وحافز مهم لإعادة قراءة تاريخنا المجيد باهتمام شديد وتركيز ودقة وتمحيص، للوقوف مجدداً على ما غاب عمَّن اجتهدوا سابقاً مشكورين، في توثيق تاريخنا الثّر الغني بالكفاح والبطولات والإنجازات وتدوينه. فلنتأمل جيداً ما بين السطور، ونتعمق في التحليل والمقارنة، ومن ثمَّ نقدم للأجيال الناشئة مادة دسمة متكاملة، توطن في نفوسهم القدوة التي تشرئب أعناقهم للسير على خطاها الثابتة الواثقة، وترسخ اعتزازهم برسالة بلادهم وانتمائهم لوطنهم وفخرهم بقيادتهم وحرصهم على خدمة شعبهم.
أجل، اليوم لن أحدثكم عن بزوغ فجر دولتنا الفتية منذ ستة قرون، ولا عن نشأة إمارة الدرعية منذ أن كانت بيوتاً متلاصقة متواضعة، قوامها اللبن وجذوع النخيل وسعفه، يوم تولى حكمها الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن خلفاً لزيد بن مرخان، قبل ثلاثة قرون، ليؤسس فيها الدولة المدينة، فيكون ظهوره الباهر هذا فاصلاً لعهد الإمارة عن عهد الدولة، لتتحول اليوم في عهد رؤيتنا الطموحة الذكية إلى دولة قطرية قارة، تتمتع بعضوية كاملة في نادي أكبر عشرين دولة اقتصادية في العالم (G 20) شهدت عاصمتها العتيدة عقد آخر قمة للمجموعة، فضلاً عن عضويتها في مؤسسات عالمية مهمة ودورها المحوري في اقتصاد العالم وسياسته، الأمر الذي جعل الرحال تشد إليها من قارات الدنيا كلها، طلباً للدعم والمساندة والرأي السديد في حل مشكلات العالم؛ ولتغدو الدرعية، نواة هذه الدولة المباركة، واحدة من أبرز معالم العالم التراثية.
أجل، لن أحدثكم عن هذا ولا عن ذاك، بل آثرت أن أحدثكم عن بطولة قادة آل سعود الأفذاذ، المقاتلين الشجعان، عن جهادهم وتضحياتهم واعتزازهم بانتمائهم لعقيدتهم.. عقيدة التوحيد الصادقة الخالصة، وعن فخرهم ببلادهم، وحرصهم على خدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة ورعاية ضيوف الرحمن، وترسيخ الأمن والاستقرار ليتفرغ الناس للعمل والعبادة، والاهتمام بشؤون المسلمين حيثما كانوا.
أجل، سأحدثكم عن علم قادة آل سعود، وعن تواضعهم وحكمتهم وذكائهم وسعة صدرهم وتوقيرهم للعلم والعلماء، وعن مشاركتهم مواطنيهم في الهينة والقاسية، في الحلوة والمرة، وعن سبب هذا التلاحم الوطني الفريد في العالم بين قادتنا الأوفياء وشعبهم المخلص النبيل.
أجل، كان قادة آل سعود، وما زالوا، وسوف يظلون على الأبد إن شاء الله، يجهزون الجيوش والقوات بكل ما يلزم من عدة وعتاد، يرسمون سير المعارك ويحددون ساعة الصفر، ويقودونها بأنفسهم لتأديب العصاة المناوئين والخارجين عن الجماعة والقانون. فكانوا أول من يواجهون الأعداء بصدورهم فيستشهدون في سبيل الدين والوطن، وآخر من يغادرون ساحة المعركة أو يأخذون شيئاً من الغنائم. فقد استشهد الأميران فيصل وسعود ولدا الإمام محمد بن سعود دفاعاً عن الدرعية في بداية تأسيس الدولة السعودية الأولى ضد دهام بن دواس عام 1160هـ/ 1747م.
الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن:
لقد اتفق كثير من المؤرخين على وجود شبه كبير بين الإمام محمد بن سعود، الإمام تركي بن عبدالله، ابنه الإمام فيصل بن تركي، والملك عبدالعزيز آل سعود، وبالطبع خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد الملك سلمان، الذي أجمع المؤرخون على أنه أكثر الناس شبهاً بوالد الجميع المؤسس الملك عبدالعزيز، خَلْقَاً وخُلْقَاً. فثمَّة قيم مشتركة عديدة جمعت بين هؤلاء القادة الأبطال الأفذاذ الذين خلدوا لنا إرثاً سوف نظل نفاخر به الأمم إلى الأبد.
فقد ظهر كل من المؤسسين الثلاثة في ظروف متشابهة إلى حد كبير تقريباً من حيث تعقيد المهمة وما يكتنفها من عقبات. ولوضع حد لتلك الظروف، انبرى الإمام محمد بن سعود من بين صفوف أبناء هذه الأسرة الكريمة ليتولى الأمر عام 1139هـ/ 1727م، ليعيد البوصلة لاتجاهها الصحيح. وكان رجلاً كثير الخيرات والعبادة، كريم الطبيعة، ميسر الرزق سخياً حريصاً على مساعدة قومه من ماله الخاص والتئام جماعته، كارهاً للفتن، فاهتم بلم الشتات وتوحيد الكلمة وجمع الصف حتى يتمكن الجميع من توجيه جهده لخدمة الرسالة. فوحَّد بين شطري الدرعية، وأمنها ضد المعتدين ببناء السور، ورسخ الأمن والاستقرار، واهتم بمعاش الناس وتنظيم حلقات العلم، فكان يحرص على إقامة الدروس في المساجد وحتى في داره، ويشجع أبناءه على حضورها، ونظم شؤون الحكم، حافزاً لكثير من القبائل والعشائر بالانضمام إليه والهجرة إلى الدرعية والالتفاف حول هذا الزعيم الجديد الذي اقنع الناس بقدرته الإدارية المدهشة وذكائه وحكمته وحنكته وحلمه، وتواضعه وعلمه، وفتح أبواب مجلسه للعامة والخاصة، وحرصه على اتباع الشرع وتأمين الحجيج وخدمتهم.
ويذكر المؤرخون في هذا أن زعماء الدولة السعودية كانوا يقدمون ضيافة للحجاج الذين يأتون من شرق الجزيرة العربية، كحجاج الهند وإيران وأفغانستان وغيرها، لمدة ثلاثة أيام، ريثما يرتاحوا ويريحوا رواحلهم ليستأنفوا مسيرهم تجاه الأراضي المقدسة.
من جهة أخرى، كان لا بد له من تأديب الخصوم والمناوئين، إذ كانت المعارك في عهده مستمرة ضد أهل الباطل، إذ كانت الفتن بين القبائل والعشائر وسكان القرى والمدن على أشدها، ولهذا كان حريصاً على تجهيز الجيوش والسير بها لتأديب العصاة، فقادها بنفسه. كما كان يحفز أبناءه على الجهاد والكفاح من أجل هذا الإرث العظيم؛ حتى أن ولديه، فيصل وسعود قد استشهدا في الدفاع عن إرثهم ضد دهام بن دواس عام 1160هـ/ 1747م؛ ولهذا يلقب بعض المؤرخين الإمام محمد بن سعود بـ (والد الشهيدين).
وعلى كل حال، تأسست على يد الإمام محمد بن سعود في الدرعية، أول دولة عربية مستقلة. وقد تم في عهده توحيد أكثر بلاد العارض، وهكذا ترك لأولاده إرثاً عظيماً تجاوز كثيراً إرث آبائه.. دولة ترفرف راياتها على أكثر بلدان نجد، وينتشر أنصارها في مختلف القرى والمدن والبوادي النجدية حتى إذا لحق بالرفيق الأعلى عام 1179هـ/ 1765م، كان يسيطر على الناس شعور النصر للدولة الجديدة، والرعب لخصومها ومناوئيها.
الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود:
ثم تولى الأمر بعده ابنه الإمام عبدالعزيز، الذي سار في الناس سيرة والده، فقد جاء متمرساً تحت قيادة والده لهذه المهمة العظيمة في ترسيخ البنيان، لأنه شارك في بناء الدولة وتركيز دعائمها، فقد آزر والده في كهولته وناب عنه في شيخوخته. ولما توفى والده واستقل بالسلطان، حمل الإمام عبدالعزيز الراية بقوة وإيمان، وأخضع البلدان بالحرب والسياسة، فأضاف إلى تركة أبيه المباركة شيئاً كثيراً. وهكذا انطلقت قافلة ترسيخ البنيان والتعمير، فكان يقاتل بيد ويهتم بشؤون الدولة الداخلية باليد الأخرى، فتوافر للناس من الأمان والاستقرار والرخاء ما لم يكن متوافراً في عهد والده، واتسعت حدود دولته حتى بلغت الأحساء والقطيف والبحرين والعراق والحجاز.
فمثلما كان الإمام عبدالعزيز مشهوراً بشجاعته وفتوحاته، اشتهر أيضاً بهذا الجانب المضيء من شخصيته: خلق كريم، محبة للعلم والعلماء ورعاية لطلبة العلم، عطف على الفقراء، مناصرة للضعفاء، كراهية للظالمين، تورع عن المحارم، تواضع وزهد وبساطة، كريم سخي، وقاف عند حدود الله. كثير الرحمة والرأفة بالرعية، لاسيَّما الضعفاء والأرامل والأيتام؛ شديد الحرص على سعادة شعبه، يتعهدهم بالسهر الدائم، ويكافح عنهم ما استطاع الجوع والمرض والخوف والجهل والفساد. كما كان يعيش عيشة تقشف مثل أكثر رعاياه، نزيهاً. وكان مع هذا كله، على حظ كبير من الثقافة والعلم.. يقوم بأعماله بنفسه، يساعده كاتب واحد.
وبالجملة، كان الإمام عبدالعزيز، كما وصفه الجنرال فيغان: (يجمع في أحسن مزاج، الشجاعة والحكمة، وهما صفتان عظيمتان لا بد لكل فاتح كبير أن يتحلى بهما).. أجل، كان الإمام عبدالعزيز حقاً فاتحاً عظيماً، كما كان مع ذلك قائداً حليماً وملكاً رحيماً وإنساناً كريماً.. ولهذا تعد سيرته من أنبل السير وأجدرها بأن يتدارسها القادة فيتخذونها قدوة.
وقد وصفه بولس سلامة في ملحمته الشهيرة الرائعة (عيد الرياض) قائلاً:
صائن الدين من خطوب عوادٍ
وإمام الزهاد الصوَّام
الوديع المهيب خَلقاً وخُلقاً
المصلي والعابد القوَّام
بسط الأمن في مباسط نجدٍ
فتآخت صقوره والحمام
الحبارى في ظله آمناتٌ
ومع النمر تسرح الأنعام
وهكذا ودَّع الإمام عبدالعزيز الحياة شهيداً في 18 من رجب عام 1218هـ/ 1803م؛ إذ فاجأه قاتل أثيم، اختلف المؤرخون في اسمه وجنسيته ودوافعه بطعنة خنجر كانت فيها منيته، بينما كان يؤدي صلاة العصر في مسجد الطريف بالدرعية، فقضى نحبه شهيداً، بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء، قضى أكثر من أربعين عاماً في الوحدة والتوحيد، ووضع مزيداً من اللبنات على بنيان والده الإمام محمد بن سعود في ترسيخ أركان الدولة؛ لم تكن تثني عزمه هزيمة أو يغريه انتصار. فقد كان يزحف برجاله من أدنى البلاد إلى أقصاها في يومي الشدة والرخاء.. فتراه يوماً بالعراق، وآخر في الربع الخالي.
الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود:
وإثر رحيل الإمام عبدالعزيز، بويع ابنه الإمام سعوداً، الذي بويع بولاية العهد في عهد والده عام 1202هـ/ 1787م، بالحكم. فكان عهده استمراراً لعهد والده، مع زيادة في الحروب والتوسع والرخاء والثراء والأمن والاستقرار. كان سعود وسيماً، جهوري الصوت، ذكياً عبقرياً داهية، سريع الحفظ، سريع الفهم، كان من الهيبة بحيث يبهر عيون الناظرين، شهماً كريماً، خبيراً بتقلبات الأيام، عالماً بالحديث والتفسير وعلوم اللغة، خطيباً بارعاً ومحدثاً رائعاً، أجمع العارفون به على فصاحته وبلاغته وحسن بيانه وكان بطلاً شهماً، شجاعاً مقداماً مثل والده الإمام عبدالعزيز وجده الإمام محمد بن سعود، أهلاً للقيادة والرئاسة. فقد كان مهيباً مرهوب الجانب.. فقد كان حقاً بطلاً فذاً. وصفه ابن بشر قائلاً: كان (ثبتاً شجاعاً في الحروب، محبباً إليه الجهاد في صغره وكبره، وأعطى السعادة في مغازيه، فلم تهزم له راية، بل نُصر بالرعب الذي ليس له نهاية، وكل أيامه مواسم، ومغازيه غنائم... متيقظاً بعيد الهمة، يسر الله له من الهيبة عند الأعداء والحشمة في قلوب الرعايا، ما لم يره أحد، وهو مع ذلك كثير التواضع للمساكين وأصحاب الحاجة... إذا كتب نصيحة إلى جميع رعاياه من المسلمين أتى بالعجب العجاب، وكان أول ما يصدر النصيحة بالوصية بتقوى الله تعالى، ومعرفة نعمة الإسلام، ومعرفة التوحيد، والاجتماع بعد الفرقة، ثم الحض على الجهاد في سبيل الله، ثم الزجر عن جميع المحظورات. إذا تكلم في المحافل بنصيحة أو مذاكرة، بهر عقل من لم يكن قد سمعه، وخال في نفسه أنه لم يسمع مثل قوله وحسن منطقه.. سار بالمسلمين يعتسف من الفيافي السهل والصعاب، ويطوي من أديم الأرض كل موحشة يباب... فأمنت البلاد في عهده، وطابت قلوب العباد، وانتظمت مصالح المسلمين بحسن مساعيه، وانضبطت الحوادث بين مراعيه، فبلغ من الشرف منتهاه، ومن سنام المعالي أعلاه). وكان مع هذا داهية حازماً، سياسياً عازماً. لقب بـ (سعود الكبير) إعجاباً بأعماله الكبيرة، وبطولاته العظيمة.
يقول بولس سلامة، صاحب (ملحمة عيد الرياض) في هذا:
روَّع الترك أن يروا عربياً
شامخ الرأس، في الحجاز يسود
كما وصفه أمين الريحاني، إذ يقول: (دُعِي الإمام سعوداً بـ «الكبير» لأنه خُصَّ بكثير من تلك السجايا التي تؤهل رجل التاريخ لهذا اللقب، فكان في عظمته متواضعاً، وفي حكمته ورعاً، وفي عدله حكيماً، وفي سياسته جامعاً بين المروءة والمضاء، أضف إلى ذلك ذكاءً لم يكن عادياً، ولم يقف به عند حد السياسة، فقد كان مولعاً بالعلم، محباً للعلماء وللطلاب، فلم يستنكف من عقد مجالس للمطالعة والتدريس في قصره وتحت إشرافه، عندما يكون في العاصمة، بل كان يتولى التعليم في بعض الأحيان بنفسه فيدهش حتى العلماء بما كان يحسنه من علمي التفسير والفقه. ومع تعدد مشاغله ومشاكل ملكه البعيد الأرجاء، كان يزور مجالس التدريس العامة، فيطلع على أعمال الطلبة ويجزي منهم الأذكياء المجتهدين. كما كان كبيراً في أخلاقه مثله في أعماله، لا ينكر الفضل على ذويه وإن كانوا من أعاديه، ولا يقف في إحسانه ومكارمه عند شبهات النفس وأهوائها... لم تهزم له راية في غزواته كلها وفتوحاته، ولا حالت دونها أو عار شبه الجزيرة وأهوال بواديها فقد اجتازت جيوشه حتى الحرَّة...).
أجل، هكذا كان الإمام سعود بن عبدالعزيز.. بطلاً مهاباً وفارساً مغواراً، مما حدا بزعماء الغرب للتودد إليه. يقول المؤرخ سيدو الفرنسي: (إن الوثائق الدبلوماسية أظهرت للناس الاتصالات التي تمت بين الإنجليز وبين الإمام سعود، لكن الأمر الذي لا تعرفه إلا قلة من الناس، هو أن نابليون بونابرت، إمبراطور فرنسا، اتصل هو أيضاً بالإمام سعود. وقد أشار الإمبراطور إلى هذا في مذكراته).
أما عن عدل الإمام سعود، فيقول ابن بشر: (حججت تلك السنة - 1225هـ - وشهدت سعوداً وهو راكب مطية ومحرماً بالحج، ونحن مجتمعون في نمرة لصلاة الظهر، فخطب في ظهر مطيته خطبة بليغة وعظ الناس وعلمهم المناسك. وذكرهم ما أنعم الله علبهم به من الاعتصام بكلمة لا إله إلا الله، وما أعطى الله في ضمنها من الاجتماع بعد التفرق، وأمان السبل، وكثرة الأموال، وانقياد عصاة الرجال. وأن أضعف ضعيف يأخذ حقه كاملاً من أكبر كبير من مشايخ البدو وأعظم عظيم من رؤساء البلدان...). وقد اتفق كثير ممن كتب عنه على أن أكبر مزيتين رائعتين لحكمه هما العدل هذا، الذي كان أساسه المساواة وعدم المحاباة، وصنوه الأمن الذي كان أساسه العقاب الرادع بموجب الأحكام الشرعية.
وهكذا انتقل سعود إلى الدار الآخرة عام 1229هـ/ 1814م، بعد رحلة كفاح عظيمة، امتدت بلاده قبيل وفاته من أطراف عمان ونجران واليمن وعسير، إلى شواطئ الفرات والبادية السورية، ومن الخليج العربي، إلى البحر الأحمر. ومع هذا لم تكن الحروب وإدارة الدولة تشغله عن العبادة؛ فكان إذا دخل وقت الصلاة والقوم في وطيس المعركة، أذَّن المؤذنون وصلوا صلاة الخوف؛ فتتقدم طائفة من الجنود للحرب، فيما تتأخر أخرى لأداء الصلاة تحت أزيز المدافع وصليل السيوف. فلا غرو أن يظل علم دولة الرسالة السامية العظيمة الخالدة، عالياً خفاقاً على مر الدهور والأجيال.. تكبو مرة فتنهض أكثر قوة وازدهاراً وتصميماً على المضي قدماً.
الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز:
أجل، تلك هي دولتنا، دولة الرسالة في بداية تأسيسها، ماضية بهمة وثبات وعزم يفل الحديد، لبلوغ غايتها في أن تصبح دولة يشار إليها بالبنان، فنحن قوم كما قال السموأل:
إذا سيِّدٌ منَّا خَلا، قام سيِّدٌ
قؤولٌ لما قال الكرامُ فعولٌ
وهكذا عندما انتقل الإمام سعود إلى رحاب ربه بعد رحلة كفاح طويلة، أضاف فيها لبنات عديدة لدولة أسرته، برز من بين الصفوف ابنه الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز ليتولى قيادة قافلة الخير القاصدة عام 1229هـ/ 1813م. وهو بطل فارس كوالده وأجداده.. ذا سيرة حسنة، مقيماً على الشرائع، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، كثير الصمت، حسن السمت. صالح التدبير في مغازيه، ثبتاً في مواطن اللقاء. وكانت سيرته في حروبه وفي الدرعية في مجالس الدرس، وفي قضاء حوائج الناس وغير ذلك، على سيرة والده الإمام سعود. قاد جيش التوحيد شرقاً وغرباً، ونازل عساكر العثمانية حرباً وضرباً؛ فتتابعت عليه الحروب والكروب، ومع هذا ثبت وصبر ولم تعرف نفسه الكريمة الأبية الجزع والخوف، فقاتل قتالاً مريراً شهد به كل من عاصره.
كان عهده سلسلة موصولة من المعارك التي خاضها ضد محمد علي باشا وابنه طوسون ومن بعده ابنه إبراهيم باشا. ومع أنه لم يكن لديه ما لدى أعدائه مثل هذا السلاح الثقيل الرهيب، ولا أولئك الخبراء الذين يحسنون التخطيط واستعمال السلاح الجديد، ولم تكن ذخيرته كافية، إلا أنه قبل التحدي فدافع هو وإخوانه وأبناء أسرته وشعبه عن دينهم وعن بلادهم دفاعاً بطولياً مستميتاً، لأكثر من ستة أشهر في حصار الدرعية وحدها ضد البغاة المعتدين، حتى رووا أرضهم الطاهرة من دمائهم الزكية. فإن كانوا قد خسروا المعركة، إلا أنهم ربحوا شرف الدفاع عن وطنهم بكل بسالة، ولم يناموا على الضيم، ولم يسكتوا عن الهزيمة. يقول ابن بشر، استشهد في معارك الدرعية وحدها نحو واحد وعشرين من أمراء آل سعود، الأمر الذي يؤكد صدقهم في الحروب ومباشرتهم للقتال بأنفسهم. وبقيت جذوة الحماسة مضطرمة في نفوسهم حتى إذن الله سبحانه وتعالى بطرد الغزاة الغاصبين، وتحرير الوطن من رجزهم، بقيادة بطل آخر من آل سعود، قؤول، لما قال الكرام فعول، هو الإمام تركي بن عبدالله ابن الإمام محمد بن سعود.
ولا يفوتني هنا إظهار هذا الجانب الإيماني الراسخ في نفس الإمام عبدالله بن سعود، شأن كل قادة آل سعود، إذ لما رأى الإمام عبدالله أن العدو يقصف النساء والأطفال، قرر أن يفدي أسرته وشعبه وبلاده بنفسه، شأن كل الأبطال العظماء، فأرسل إلى إبراهيم باشا يعرض عليه الصلح. فطلب إليه الأخير أن يخرج إليه، فتصالحا، على أن يركب الإمام إلى السلطان، يحسن إليه أو يسئ.
قال إبراهيم باشا يخاطب الإمام عبدالله بعد أن خرج إليه: الآن رأيت قوتي فسلَّمت؟.. فأنا أحميك حتى تصل إلى أبي، وأبي يحميك حتى تصل إلى السلطان، وأما السلطان، فلسنا نعلم ما يصنع بك.
- فجاءه رد الإمام المؤمن الموحد: أنت قوي يا إبراهيم، وأبوك محمد علي أقوي منك، والسلطان محمود أقوي من أبيك.. لكن الله سبحانه وتعالى أقوى منكم جميعاً. وإذا لم يكن مقدراً عليَّ أن أُقْتَل، فإن سيوفكم كلها لا تستطيع أن تقطع رأسي. وكان الإيمان نفسه والتوحيد واليقين الذي رد به الإمام عبدالله على محمد علي باشا عندما وصله في مصر.
ويقول المؤرخ غوان: إن محمد علي قال لعبدالله بن سعود: ما رأيك في حوادث نجد التي أصبحت الآن من التاريخ؟ فرد عليه: قبل أن يقرأها البشر تاريخاً، كانت مكتوبة في اللوح المحفوظ.
وهكذا طويت صفحة مشرقة من جهاد هذه الأسرة السعودية المباركة في تأسيس دولة الرسالة السامية العظيمة بعد سفر الإمام عبدالله بن سعود ومرافقيه إلى مصر ومنها إلى استانبول حيث قتلوا ظلماً، غير أنهم لقوا خالقهم ثابتين على الحق إن شاء الله.
الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود:
لكن الله سبحانه وتعالى لطف بهذه الدولة المؤمنة، بعد محنتها القاسية، وتهديم عاصمتها، فنهض سيِّد شجاع بطل همام من آل سعود، ذلكم هو الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود، الذي كان بطلاً فذَّاً شجاعاً مقداماً أعاد بناء الدولة السعودية.
أجل ذلكم هو البطل تركي بن عبدالله، صاحب السيف الأجرب؛ الذي لم يكن يملك من متاع الدنيا شيئاً غيره، وقد وصفه د. منير العجلاني وصفاً بليغاً: (تروى عن تركي وقائع تشبه الأساطير، وكان سلاحه، بل رفيقه الذي لا يفارقه قط، السيف الذي عرف باسم «الأجرب». فحرر بلاده من الغزاة، ورفع راية التوحيد ترفرف على ربوعها عالية خفاقة من جديد، وأسس الدولة السعودية الثانية، واتخذ من الرياض عاصمة لها، لأنه رأى أنها أكثر أماناً من الدرعية ضد هجمات المعتدين.
كان البطل تركي صاحب قضية مقدسة، يهون من أجلها كل شيء حتى الروح، فكان يختفي بالنهار عن الأنظار ويخرج ليلاً كالليث، مثيراً في نفوس الأعداء الرهبة والخوف والرعب ليعمل الأجرب في رقاب المجرمين المعتدين ثم يعود إلى مكمنه، فصبر بعظمة وأنفه أمام طغيان الأعداء وجبروتهم، واستنفر المخلصين من أبناء شعبه حتى مع خذلان البعض، وكان يكتب إليهم بحزم وحسم: (من كان منكم على السمع والطاعة، فليسكن عن الحرب والفتنة ويقبل إليَّ).
وهكذا ظل يجاهد ويكافح وينافح عن وطنه بكل ما أوتي من قدرة وقوة وسعة حيلة حتى اجتمع إليه عدد كافٍ من الجنود، فكان يقودهم بنفسه يمنة ويسرة، ليلاً ونهاراً، يحاصر هنا، ويصالح هناك، ويقاتل ببسالة في ناحية ثالثة حتى تمكن من إجلاء الدخلاء عن وطنه وأعاد تأسيس الدولة السعودية على جماجم الأعداء.
وكما سبق أن أسلفت، كانت بطولة آل سعود شاملة جامعة، فبجانب إقدامهم في المعارك، وحزمهم وعزمهم وحسمهم وحلمهم وذكائهم وحكمتهم وتواضعهم وسعة صدرهم ومروءتهم، كانوا أهل علم ودين وصلاح وأصحاب بلاغة وقدرة على الخطابة. فها هو الإمام تركي كلما حط جيشه رحاله في أرض المعركة، أرسل إلى رؤساء النواحي والأقاليم بالاجتماع إليه فوقف فيهم خطيباً مفوهاً. كما كان يرسل في كل عام رسالة شاملة جامعة بليغة إلى كل ناحية من نواحي مملكته العتيدة، يطمئن فيها عليهم ويسأل عن أحوالهم ثم ينصح لهم فيوصيهم بشكر الله وتقواه ويحثهم على المحافظة على الصلاة والزكاة، ويحذرهم من الربا وبخس الميزان والمكيال مؤكداً لهم أن هذا لا يجوز حتى مع الذمِّي.. وبسبب تمسكهم بمبادئ الدين السمحة هذه، انتصر قادة آل سعود، بعد توفيق الله تعالى، على خصومهم.