الهادي التليلي
من ينشئ العملية الترفيهية.. هذا السؤال الزئبقي الذي لا يفترض إجابات واضحة ولا يقدم وصفات جاهزة، لأن ذلك يرتبط أساسًا بتحديد الفئة المستهدفة، إذ لكل فئة مستهدفة هناك مائدة ووجبة ترفيهية تشبهها، لأن هوية العملية الترفيهية وصلتها بالفئة المستهدفة وثيقة، فمن يعيشون في وسط ريفي بحت احتياجهم الترفيهي مختلف عن الذين يعيشون وسطًا حضريًا، وحتى داخل الوسط الحضري نفسه يختلف الاحتياج الترفيهي من حي لآخر حسب طبيعة وفئة الجمهور المستهدف، فالأحياء الراقية العملية الترفيهية تختلف في مادتها وطرق تقديمها عن الأحياء الشعبية، كما أن الترفيه في المناطق والمدن الصناعية يختلف كمًا وكيفًا عن الترفيه في المناطق الريفية وذات الصبغة الزراعية في حياتها العامة، لأنه مثلما قلنا ونقول الترفيه هو الإنسان بشغفه للحياة. ومن هنا جاءت المقاربة السوسيولوجية لظاهرة الترفيه بكونها ظاهرة اجتماعية تختلف من فئة لأخرى في احتياجاتها، وحتى أكاديميات الترفيه محور اهتمامها كان وما زال هو الظاهرة بألف لام التعريف، فمعرفة هوية وخصائص الإنسان موضوع العملية الترفيهية هو أساس بناء إستراتيجية كاملة من الفكرة إلى التخطيط إلى إدارة المحتوى إلى التقييم وبناء فعالية جديدة،
الترفيه في الفضاءات المفتوحة والمعبر عنه. بـEntertainment in open spaces لا يمكن أن ينجز خارج الوعي بالخصوصيات الأنتروبولوجية، بل ولا يمكن أن يتناول بعيدًا عن المقاربة السوسيولوجية، لأن الترفيه فعالية بشرية تمس نشاطه في المجتمع من ناحية وتشبه هويته التي تميزه عن غيره من الشعوب من ناحية أخرى، وهنا يستوقنا تصور مارغريت ميت التي تعتبر بأن الشعوب التي تعيش بيئة قاسية مثل شعوب إفريقيا تكون سلوكياتها أكثر حدة من الشعوب التي تعيش مجاورة للبحر ولا تكابد تضاريس قاسية ومن ثمة احتياجاتها للترفه مختلفة عن غيرها وهو ما يبرز في طرق الترفيه التي تختارها لنفسها، فالشعوب ذات البيئة القاسية سواء كانت تعيش أنظمة عسكرية ويعد القتال جزءًا من حياتها بل النفس الذي تتنفسه تكون أنماط الترفيه أشبه بالمعارك والقتال، وهنا يحضرنا النموذج الروماني في المسارح العملاقة المهيبة التي تبنيها أينما حلت، فالترفيه هو الفرجة ومشاهدة معارك تنتهي بموت الأضعف وتحتفل ببطولة الأقوى حتى أن مصارعة الأسود عندهم تعد الفرجة الأكثر ترفيهًا، والشيء نفسه ولكن بصيغة أخرى نجد عند الإغريق الفرجة مرتبطة بصراع واختبار القوة وكان لهم نجوم يتسمون بالقوة والفتوة والقدرة على قهر كل الخصوم في منازلة أشبه بالعرض المسرحي.
الترفيه الذي لا يشبه الفئة المستهدفة في احتياجها الحيني والمستقبلي هو ترفيه فئة أخرى قدم لفئة مغايرة كحال الدواء الذي هو لوصفة أخرى قدم خطًا لوصفة مغايرة، لذلك دراسة الترفيه في علاقته بالهوية مسألة جد مهمة وحساسة لأن الترفيه في جانب منه خطة علاجية للمجتمع من القلق والحاجة والسأم ودواء يقي المجتمعات من التطرف والإرهاب والتوحد الحضاري، ومن ثمة تشخيص الاحتياج الترفيهي هو تشخيص للفئة المستهدفة. ومن هنا جاء اقتراحنا بأن توضع استشارة سنوية حول الترفيه يشرك فيها كل المعنيين بالشأن الترفيهي في كل المناطق في منهجية تعتمد القطاعية والمركزية حيث يعبر كل المعنيين من خلال الاستشارة عن حاجياتهم الترفيهية ويستمع لهذه الحاجيات في كل الأماكن والربوع، علمًا أن جلسات الاستشارة الحوارية هذه في حد ذاتها حلقات ترفيهية يكون فيها الجمهور المستهلك شريكًا في اختيار الوصفة الترفيهية التي تشبهه لا فقط في ذلك المكان بل أيضًا في ذلك الحين، لأن الحاجات الترفيهية متحركة فحاجاتي الترفيهية الآن ليست هي حاجاتي الترفيهية قبل عشر سنوات وليست هي ذاتها بعد سنوات طويلة، فالترفيه يخضع لمقولة أنا الآن هنا.
هذا، وتكون الحلقات الحوارية تجمع المعنيين عمومًا في الاستشارة المركزية سواء في الأرياف أو المدن في حين تعقد جلسات قطاعية تشمل الحاجات القطاعية مثل ما هي الموسيقي وأنماطها التي تشبع نهم هذه الفئة ترفيهيًا، وما هي الأنماط الشعرية، وما هي أنواع الفعاليات التشكيلية التي تستهوي هذه الفئة دون غيرها، وما هي الفنون الأدائية التي تشبهها، فالمشاركة بالنسبة للجمهور المستهدف شرط أساسي في العملية الترفيهية.
وهنا نلاحظ مثلاً في البلدان الأوروبية وفي المساحات التي تتيحها البلديات للترفيه الجماعي نجدها تحت إشراف لجان الأحياء التي تقدم مقترحات سكان الحي نفسه في المواد الترفيهية المقدمة، لأنه لا يوجد قالب مرفه للجميع ولا يوجد احتياج واحد للترفيه لسبب واضح وبسيط بساطة شديدة التعقيد هي أن الموضوع يتعلق بالإنسان المختلف من واحد لآخر والمتغير بين حين وحين.
وهنا نطرح مسألة جد مهمة قدرة الترفيه على توجيه الذائقة نحو الأميز والأفضل بما يستجيب للمعايير والطموحات، فلا يمكن أن يكون كذلك إذا لم يقترب من الإنسان كفاعل وشريك والتعلم منه ومن حاجاته ورغباته للانطلاق نحو التوجيه الثقافي الأميز الذي ترتئيه البلدان الطامحة للنماء، فلا نماء بلا شعوب مترفهة وشريكة في عملية الترفيه والتنمية حتى تكون مستدامة وحية ومتطورة.