أُلام لما أُبْدي عليك من الأسى
وإني لأخفي منه أضعاف ما أُبْدي
هلَّ علينا هلال رمضان المنصرم، والوضع الصحي للوالد -رحمه الله- غير مستقر، وكنا نلحظ ذلك ونعزوه إلى إرهاق أو إجهاد، لاسيما أن الوالد قد ألف أموراً أثناء صحته وعز عليه تركها بعد تعبه، حتى ساءت حالة الوالد جداً، ولم يعد قادراً على التعبير عما يريد بصوت مسموع، وإن أنس فلن أنسى يوم الثاني عشر من شهر رمضان، والوالد يترقب قدومي إلى البيت، فلما سلَّمت عليه أشار إلى جيب ثوبه، وقال بصوت متحامل: خذ هذا المبلغ من جيبي ولا تأتني يوم الغد إلا وقد وضعته في أيدي المحتاجين.
لقد ضعف الوالد جداً حتى خفت ذلك الصوت المدوي كأنما هو صوت الرعد، وصار أشبه بالهمس!
لم يعد أمامنا خيار سوى نقل الوالد لتلقي العلاج، رغم رفضه، وحضرت سيارة الإسعاف لنقله إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض ليلة الرابع عشر من الشهر الفضيل، وبعد فحص أولي قرر استشاريو الطوارئ إدخاله إلى أجنحة التنويم، وعدم السماح بوجود مرافق له، فشكونا بثنا وحزننا إلى الله، واستودعنا اللهَ والدَنَا، وظللنا نتابع حالته الصحية (عن بعد)، ونترقب ما يأتي به البشير، ثم سمح بمرافق واحد للوالد، ونالت هذا الشرف والثواب أختنا (خولة) - جزاها الله عنا خيراً-، وكان رجاؤنا أن تثوب إلى الوالد صحته سريعاً وألا يطول مكثه في المستشفى في هذا الشهر الفضيل، إذ لم نعتد على غيابه عنا، ولم نطق قضاء الشهر الفضيل بعيداً عنه، ولم يعتد هو قضاء الشهر الفضيل إلا بين محبيه وقاصديه وبين من يفتح لهم بيته طيلة العام لاسيما في الشهر الفضيل من الفقراء والمساكين الذين تمتلئ بهم مجالس الوالد وساحات البيت الخارجية، والوالد يعاملهم بأبوة وحنان ويشاركهم الإفطار والعشاء والحديث، ويهش لهم ويبش، في مظاهر ترقق القلوب.
وتمرّ أيام الشهر الفضيل والوالد ملازم للسرير الأبيض، لكنّه يبدأ شيئاً فشيئاً في الاتصال بأهله ومحبيه، فاستبشرنا من وراء ذلك فرجاً قريباً، حتى كان يوم الثامن والعشرين من شهر رمضان وإذا بالطبيب المعالج يبشرنا بإمكانية خروج الوالد إلى البيت ليلة العيد بعد أن يجري أشعة ضرورية، ولا تسلْ حينها عن وقع هذا الخبر على نفوسنا كأنما أعاد إليها الحياة والروح.
أجرى الوالد الأشعة، وشرع في التأهب للخروج، وشرعنا في تزيين البيت لاستقباله، ويجيء صباح يوم التاسع والعشرين من رمضان، وإذا بهاتفي يرنّ، وإذا بالدكتور يسأل عن صفتي ويتحقق من كوني الشخص المخول بالسؤال وتلقي الإجابة عن الوضع الصحي للوالد، فاستبشرت خيراً، ورجوت أن يكون الغرض من اتصاله هو الوفاء بوعده في الإذن للوالد بالخروج ودعوتي للحضور لإكمال إجراءات الخروج، فأجبته مسرعاً متلهفاً، فقال: يمكن للوالد أن يخرج إلى البيت يوم العيد ليشهد العيد مع أهله، لكنّ هناك أمراً لابد أن تكون منه على علم، فجمدت في مكاني ولم تعد قدمي قادرة على حملي، ثم رجوته أن يفصح، فقال: إن الأشعة كشفت عن داء كامن في جوف الوالد، وقد بلغ مرحلة متقدمة لا نملك إزاءها إلا المراقبة وتخفيف آثاره عليه.
كان وقع الخبر عليّ كالصاعقة إذ لم يكن هناك مقدمات ظهرت على الوالد تكشف عن تكوّن لهذا الداء الخطير في جسده، لقد كان الوالد يعاني من أمراض عارضة يمرّ بها غالباً مَن كان في مثل سنه، ولم يكن من بينها داء يشكِّل خطراً حقيقياً عليه، وظللت تائهاً لوهلة، وقد انعقد لساني، ولم أكد أفيق من هول الصدمة، حتى أغرقت الطبيب بسيلٍ من الأسئلة، وكان عليه أن يتحملها ويجيب عنها؛ فهو الذي بشرني أمس بقرب خروج الوالد ثم أجهز عليّ اليوم بهذا الخبر الصاعق.
لا أتذكر ما قاله لي الطبيب بعد ذلك، ولا أتذكر ما قلته له، وما زلت أشعر أني في حلم، حتى ليخيل إليّ أني قلت له: إنني أعرف الوالدَ أكثر مما تعرفه، وإنك وإن كنت تقرأ المؤشرات الحيوية وتقارير الأشعة وما تخبرك به الأجهزة، لكن ثمةَ أمراً وراء ذلك في الوالد لا تستطيع تلك الأجهزة أن تكشف عنه؛ إن للوالد بأساً شديداً وعزيمةً لا تلين، يمدّهما ويغذيهما كل حين إيمان راسخ، وحسن ظن بالله عظيم، إنك لم ترَه وهو يتقلب في ابتلاءات كبرى ثم يخرج منها ثابت الجنان راسخ الإيمان، أصلب عوداً وأشد يقيناً وأصحَّ بدناً.
هدأ الطبيب من روعي، وانتهى الاتصال، وانزويت في زاوية من زوايا البيت كسير القلب حزيناً، ثم انقلبت إلى الأهل أبشرهم بأن عيدنا سيتزين بحضور الوالد وتشريفه، وكتمت عنهم ما قاله لي الطبيب.
خرج الوالد إلى البيت ضحى يوم عيد الفطر المبارك من عام 1442هـ، وأقبل إليه الأهل فرحين، يقبّلون رأسه ويديه، والدموع تتطاير من محاجرها، هم يبكون بدمع بارد فرحاً، وكنت أبكي بدمع ساخنٍ قلقاً، وأرقبه وأرقبهم، ولم أشأ أن أكدر فرحتهم بخروجه كما كُدرت فرحتي، وإن كانت حالة الوالد الصحية يومئذ تكاد تفشي عن وضع صحي متأخر، غير أن عيون المحبين والمشتاقين لم تر إلا ابتسامة الثغر وبشاشة الوجه، دون رؤية هزال البدن وضعفه.
مرت الأيام بعد ذلك، واستقرت صحة الوالد بفضل الله ثم بفضل الدواء الجديد الذي صرف له، وعاد إلى ما كان قد ألفه من لقاءات واجتماعات وزيارات، وإن كان الجسد قد أفصح عن عجزه عن مقاومة الداء الكامن وذبل كما تذبل الزهرة الجميلة ذات الرائحة الزكية، حتى جاء شهر جمادى الأولى، فشعرنا بأن الوضع الصحي للوالد صار أكثر جدية، وترددت حينها في مكاشفة الأهل، واستشرت فأشير عليّ أن أخبر بعضهم، وقد فعلت، ثم لما اشتد الوضع على الوالد رأينا إخبار الجميع بالصورة العامة دون دخول في التفاصيل؛ إذ لا مناص من ذلك، وإن لم نخبرهم اليوم فإن أي واحد منهم لو نظرَ بعينيه الباصرتين لا بعين عاطفته لعرفَ حقيقة الوضع. ولا أكتمكم سراً، أننا قد فقدنا في الوالد تلك الفترة الكثير من الأشياء التي اعتادها، فلم يعد يحفل ويهتمّ بسماع الدروس والمحاضرات عبر التسجيلات والإذاعة أو بقراءة الكتب، ولم يعد يرغب في تلقي الكثير من الاتصالات الهاتفية أو فتح بابه بشكل دائم للمحبين، غير أنه ظل ثابتاً على أربع خصال ما تركها، كانت هي أكثر خصاله المعبرة عنه في أطوار حياته: دعاء دائم بالثبات وحسن الختام، وغيرة على الدين متقدة كأنما هي غيرته أيام قوته وشبابه، وحضور اجتماع الأسرة الأسبوعي في بيته والسؤال المستمر عن الأهل والأصدقاء، وبسمة وبشاشة ما فارقت محياه أبداً.
وفي مطلع شهر جمادى الآخرة، لحظنا على الوالد تغيراً في التركيز والوعي، وعدم استقرار فيهما، فأصبح يلحّ علينا برغبته في الصيام، وذات صباح اتصل بي منزعجاً لأن الأهل قد أرغموه على أكل الدواء وإفساد صومه، وكان يسترجع ويحوقل، ثم تبيّن لنا أنه يظن أننا في شهر رمضان، ولا يقبل في ذلك جدلاً، فاتفقنا على أن نقدم له وجبة الإفطار قبل الفجر مع الأدوية المصاحبة لها على أنها وجبة السحور، ثم يصلي الفجر، ووجبة الغداء مع الأدوية المصاحبة لها على أنها وجبة الإفطار من الصيام، وأقنعناه بذلك فرضي، لكنّ هذا التغير قد طال ولم يعد مجرد اضطراب عابر في الوعي والإدراك، فحاولنا أن نقنعه بضرورة مراجعة المستشفى لإجراء بعض الفحوصات، وكان يأبى ذلك، حتى كان مساء الخميس العاشر من شهر جمادى الآخرة، وقد اشتد التعب عليه وفقد الكثير من إدراكه وتركيزه، فاضطررنا لطلب سيارة الإسعاف التي نقلته إلى المستشفى، وبعد فحص سريع قرر الأطباء حاجته إلى البقاء فترة في العناية المركزة، وبعد فجر يوم الجمعة الحادي عشر من شهر جمادى الآخرة، جاء فريق العناية لنقله من غرفة الطوارئ إلى قسم العناية، فساروا به في ممرات المستشفى الكئيبة ومشيت معهم، حتى بلغنا النقطة التي يتعذر علي تجاوزها: باب قسم العناية المركزة.
فصعّدت النظر في الوالد، قبل أن يحال بيني وبينه، ويضرب بيني وبينه بسور له باب، ولن أنسى ما حييت ذلك المنظر؛ لقد رأيت وجهاً جميلاً مضيئاً مشرقاً - والله يشهد- كأحسن ما رأيت وجهه - رحمه الله-، كانت تلك النظرة عن قرب، وما استطعت أن أنظر إليه بعدها - وهو على قيد الحياة- نظرة مثلها أو أقرب منها، كان محياه يشع بالنور، لا يبدو عليه أي تعب، كأنما هو في نوم عميق متقلب في تمام النعيم وكماله، فلما أوصدوا دوني الباب اتصلت بالأهل وقلت في ثقة: إن وجه الوالد يبشرني بأن بقاءه في المستشفى لن يطول، وسيعود إلى البيت قريباً إن شاء الله.
ثم استودعته الله، ومكثت أرقب باب قسم العناية المركزة:
قد يهون العمرُ إلا ساعةً
وتهونُ الأرضُ إلا موضعا
مكث الوالد في العناية المركزة أياماً وليالي، وكانت الزيارة والمرافقة ممنوعة، كنت أتلقى تقرير الطبيب المشرف على حالته في تمام الساعة الواحدة من ظهر كل يوم، وكانت تقارير مبشرة جداً، فاغتنمت هذه الفرصة ورجوت الطبيب أن يسمح لي بزيارة خاطفة لرؤية الوالد رغم منع الزيارة، فأذن لي بذلك ساعةً من نهار يوم الاثنين الرابع عشر من شهر جمادى الآخرة، وذلك بعد أربعة أيام من دخوله المستشفى، فلما وقفت على باب الغرفة، رأيت الوالد الجليل من وراء زجاج، نائماً، ليس عليه أجهزة طبية ما عدا الأجهزة المعتادة، ومؤشراته الحيوية مستقرة، فسألت الطبيب: ما دام وضعه مستقراً، فما الحاجة إلى إبقائه في العناية المركزة بعيداً عن الزيارة!
فقال: ما أراه أمامي من مؤشرات، يدعوني إلى إخراجه إلى الجناح، لكني لا أجرؤ على ذلك.
فلما جاء يوم الأحد العشرون من شهر جمادى الآخرة، تلقيت اتصالاً من المستشفى لسماع التقرير اليومي، وكان مبشراً كسابقيه، فلما كانت آخر ساعة من عصر اليوم نفسه شعرتُ بإحساس مرٍّ جثم على صدري أخبرتُ به بعض أصدقائي، لم أجد له تفسيراً، إلا عندما تلقيت اتصالاً آخر في تمام الساعة السادسة والنصف من مساء ذلك اليوم من المستشفى يلحّ عليّ بالحضور، فاتصلت ببعض إخواني وذهبنا، فلما وقفنا بين يدي الطبيب، قال: للأسف، حاولنا ولم نستطع، لقد توقف القلب!
ما معنى هذا! هل يعي هذا الرجل ما يقول! كيف يتوقف القلب النابض بالخير والإحسان! وهل ينضب معين الخير والإحسان! هل يدرك هذا الرجل أن الأمر أكبر مما يظن! وأنه أكبر من مجرد توقفٍ للقلب، لو كان الطبيب يدري أو لو كان منصفاً لقال: لقد خسف القمر، وقد كان الوالد -واللهِ- قمراً منيراً!، أو لقال: لقد هوى النجم، وقد كان الوالد -واللهِ- مصباحاً جميلاً وزينة في هذه الحياة ودليلاً للحائرين، ورجوماً للشياطين.
هل يدرك الطبيب بكلمته هذه أنه قد وضع نقطة النهاية في الصفحة الأخيرة لعمرٍ حافل بالعطاء والدعوة والخير والإحسان اتسعت آماده وكثرت أمداده!، وأنه وإن كتب تقرير الوفاة بيده، إلا أن للوالد عمراً ثانياً وباقياً لا ينهيه تقرير وفاة تخطّه يد طبيب، والله تعالى يقول {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} وآثار الوالدِ الخيّرة - ولله الحمد- كثيرة وممتدة يرجى له بها دوام الثواب والأجر، وفي الحديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»، وقد قيل: «والذكر للإنسان عمرٌ ثاني».
تلقينا الإعلان الرسمي من المستشفى: إنه في تمام الساعة السادسة والربع من مساء يوم الأحد العشرين من شهر جمادى الآخرة من عام ????ه الموافق للثالث والعشرين من شهر يناير من عام ????م، انتقل إلى رحمة الله وجواره فضيلة الوالد الجليل الشيخ محمد بن حسن الدريعي عن عمر يناهز الخامسة والثمانين.
تلقينا الخبر بالرضا والتسليم، وعزينا أنفسنا وإخواننا في الوالد الجليل بما كان يعزي به الناس {ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه}، وتراءت أمام عيني مشاهد للوالد وهو يعزي في أشياخه وإخوانه من أهل العلم، ويردد أبيات شاعر نجد محمد بن عثيمين، بصوته الجميل المؤثر:
أهكذا البدر تخفي نورَه الحفر
ويفقد العلم لا عين ولا أثر
خبت مصابيح كنا نستضيء بها
وطوحت للمغيب الأنجم الزهر
واستحكمت غربة الإسلام وانكسفت
شمس العلوم التي يهدى بها البشر
تخرم الصالحون المقتدى بهم
وقام منهم مقام المبتدا الخبر
فلستَ تسمع إلا كان ثم مضى
ويلحق الفارط الباقي كما غبروا
إلى أن يقول:
وَنُح على العِلمِ نوحَ الثاكلاتِ وَقُل
وَالهفَ نفسي على أَهلٍ لهُ قُبِروا
الثابتينَ على الإيمانِ جُهدَهُمُ
وَالصادِقينَ فما مانوا وَلا خَتَروا
الصادِعينَ بِأَمرِ اللَهِ لَو سَخطوا
أَهلُ البَسيطَةِ ما بالوا وَلو كثُروا
وَالسالِكينَ على نَهجِ الرَسولِ على
ما قَرَّرَت مُحكَمُ الآياتِ وَالسوَرُ
وَالعادِلينَ عن الدُنيا وَزَهرَتِها
وَالآمرينَ بخيرٍ بعدَ ما اِئتُمِروا
لَم يَجعَلوا سُلَّما لِلمالِ عِلمَهُم
بَل نَزَّهوهُ فَلَم يَعلُق بهِ وَضَرُ
فَحيَّ أَهلاً بهِم أَهلاً بِذِكرهِمُ
الطَيّبينَ ثَناءً أَينَما ذُكِروا
أَشخاصهُم تَحتَ أَطباقِ الثَرى وَهُمُ
كَأَنَّهُم بَينَ أَهلِ العِلمِ قَد نُشِروا
هذي المَكارمُ لا تَزويقُ أَبنِيَةٍ
وَلا الشُفوفُ التي تُكسى بها الجدُرُ
وتناقل الناس سريعاً خبرَ وفاة الوالد، وانتشر انتشاراً عظيماً، وقد أمسينا تلك الليلة ما بين باكٍ وداعٍ وواعظ وشاهد من شهود الله في أرضه مثنٍ على الوالدِ الكريم بما يعلمه عنه من خير وبر وفضل.
فلما كان من الغد، يوم الصلاة عليه (الاثنين الحادي والعشرون من جمادى الآخرة) نقل جثمانه الطاهر ليغسل في مغسلة جامع الجوهرة البابطين، وقد التف حوله أولاده وأحبابه، فلما وضع بين يدي المغسِّل، ترددت في الاقتراب منه، وما كان هذا خُلُقي قبل ذلك، وإنما حملني على ذلك رهبة الموت، وأني اعتدت سماعَ صوت الوالد كلما حضرت عنده، واليوم لا صوتٌ ولا جواب.
فألحَّ علي بعض إخواني برؤية الوالد وتوديعه، فلما اقتربت من الجسد الكريم المسجى أدركتني رعشة ما زالت بي حتى كشفتُ عن وجهه الكريم فرأيت ابتسامةً مشرقة جميلة انفرجت برؤيتها أسارير وجهي الحزين، وكانت سلوى وبلسماً للقلب، فقبلت جبينه الطاهر، وشممت رائحته الزكية، وسلَّمتُ عليه: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وطبتَ حياً وميتاً، وعسى أن تكون هذه الابتسامة المشرقة من عاجل البشرى لك.
وبدأت الجموع تتوافد إلى الجامع، والمحبون يملؤون الغرفة المخصصة للسلام على الفقيد العزيز، زرافات ووحدانا، ويستبشرون برؤية وجهه المضيء كما استبشرنا، وظللنا على هذه الحال حتى حان وقت العصر، فلما دخلنا الجامع وجدناه قد اكتظ بالمصلين، وسألت من بجواري فقال: وكذلك الساحات الخارجية، ثم استدرك آخر فقال: وحركة المرور حول الجامع قد توقفت.
لقد كان يوم جنازته يوماً مشهوداً، و»موعدكم يوم الجنائز»، لا إله إلا الله، ليتَ للوالدِ الحبيب تلك الساعة عيناً فيرى هذه الجموع قد اجتمعت على محبته ووداعه، وضج المسجد بأصوات الدعاء والرجاء.
ما أحسن هذا العزاء، وأشد أثره في نفوسنا نحن ذوي الفقيد العزيز، لقد عُزينا في الوالد كثيراً، وبأحسن ما يعزى به الناس -ولله الحمد-، من داخل المملكة وخارجها، وتفضل علينا إمام المسلمين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - أيده الله-، وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله- ببرقيتي عزاء ومواساة كريمتين كان لهما أثر كبير في نفوسنا - جزاهما الله عنا خيراً-، وكذلك تفضل علينا أصحاب السمو الملكي الأمراء وأصحاب المعالي الوزراء، وأصحاب الفضيلة العلماء والكثير من المحبين - جزاهم الله خيراً- بالبرقيات والزيارات الكريمة.
وعزاؤنا ما عرفناه في سيرة الوالد الحسنة - والحمد لله-، في سره وعلانيته، وخلوته وجلوته، وليله ونهاره، وصحته ومرضه، وشبابه وهرمه، وفقره وغناه، وما سمعناه من صادق الدعاء، وجميل الوفاء.
وما أثر فينا شيءٌ في لحظات توديع الوالد - رحمه الله- كمثل شعورنا بالغربة من بعده، وقسوة مشاعر الشوق إليه، وما زال يتراءى لنا بإطلالته الجميلة، وصوته الندي، وضحكته الحلوة، ومشاعره المتدفقة.
علمَ اللهُ لم يغب عن جفوني
شخصُهُ ساعةً ولم يَخْلُ حسي
لكنّ الذي أثلج صدورنا ما سمعناه من صادق الحب وخالص الدعاء، وما رأيناه ووجدناه من مشاهد الوفاء.
وجربنا وجرب أولونا
فما شيء أعز من الوفاءِ
لقد كان الوالد في حياته وفياً مع إخوانه وأشياخه وأصدقائه، وكان يدعو لهم كلما قام نصيبه من الليل، يسميهم بأسمائهم، وقد بادلوه في حياته هذا الوفاء، وبعد وفاته تجلت كثير من مشاهد وفائهم له، فهذا سماحة المفتي صديق الوالد منذ أكثر من خمسة وخمسين عاماً الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ يتقدم جموع المصلين عليه، ثم يتقدم ليصلي على جنازته إماماً، وهذا معالي والدنا وشيخنا صديق الوالد الحميم الدكتور عبدالكريم بن عبدالله الخضير يجسد مشهداً من مشاهد الوفاء، لا أنساه ما حييت، فيتصل بعد علمه بالخبر في ساعة متأخرة من الليل معزياً، ثم يحضر صلاة الجنازة، ثم يشيعها، ثم يشارك في مراسم الدفن، ثم يقف على القبر بعد تسويته ويدعو لصديقه وأخيه دعاءً حاراً مؤثراً نسأل الله أن يفتح له أبواب القبول.
وكما أثلجت صدورنا مشاهد الوفاء؛ فقد أوجعتنا مشاهد مَنْ فقدوا بفقده قلباً حانياً ويداً سخية، لاسيما ذوي الحاجات، الذين فتح الوالد لهم قلبه قبل بيته، وآنس غربتهم ووحشتهم، وتلطف معهم ورفق بهم، وأسبغ عليهم عطفه وحبه قبل أن يبسط لهم يده بالعطاء، وقد قال لي أحد جيران الوالد: إنني أتساءل عن أولئك الفقراء الذين كانوا يملؤون المسجد المجاور لبيت الوالد ونعرف أنهم ضيوفه بمجرد رؤيتهم؛ ما مصيرهم!
وأخرى من ذوات الحاجة، تتصل باكية وتقول: لمن تَرَكَنا أبوك!
وحار الجواب، ثم قلنا: إن المعزي والمعزى، كلنا في البلوى سواء، وقد رحل الوالد إلى رب كريم، وهو وأنتم في ضمان الله وأمانه ورعايته، والله لا يضيع عباده.
وبعد، فقد كتبت عن الوالد في حياته كتاباً جعلت عنوانه «في ميادين الدعوة»، أما وقد انتقل الوالد إلى الرفيق الأعلى وأُمنت عليه الفتنة، فإن من الإنصاف والبر أن أقول: إن ميادين الدعوة ليست هي فحسب الميادين التي برز فيها الوالد وتألق، لقد جال الوالد في ميادين الخير كلها، ولا أعلم في تلك الميادين كلها ميداناً إلا وللوالد الكريمِ فيه قدم صدق؛ فاللهم ارحم عبدك الفقير إلى رحمتك: محمد بن حسن الدريعي، واعف عنه، واجزه عن أولاده وأزواجه وسائر أهله ومحبيه وعن المسلمين خير ما جزيت عبادك الصالحين، واجعل ما قدمه في موازين حسناته، وميادينَ الحق والخير التي جال فيها شاهدة له، واجعل له لسان صدق في الآخرين، اللهم ارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر له يوم الدين، واجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أعزي في الوالد الكريم أهلَه، وأقاربه، وأصدقاءه، وطلابه، والدعاة وطلبة العلم وحملته، والمحبين في هذه البلاد المباركة وغيرها، والله إن العين ما زالت تدمع، وإن القلب حزين كسير، لكننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرنا في مصيبتنا، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}.
** **
- بقلم ابنه: د. حسن بن محمد بن حسن الدريعي