د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** بمقدار الثراء ينتشر الفقر، وبكمِّ الرخاء تجيءُ المعاناةُ، ومع الأمنِ يزداد الخوفُ، مثلما يُفرزُ الوقتُ فائضَ انتظار، وحين يحسُّ الإنسانُ بانتهاء مسؤولياته تتجددُ أُخر، والمؤدى تجاورُ التناقض في عالمٍ لا يؤمنُ بمعادلاتِ الاستقرار مفرزًا مشاعرَ قلقةً ونفوسًا حائرةً وسلوكاتٍ مضطربةً، وقد نظنُّهم فئامًا هادئين فإذا هم هادرون، أو واعين وهم عيِيُّون، أو طيبين بينما واقعُهم شريرون، ونجزمُ بتواضعهم لنُفاجأَ أنهم متورمون.
** لهذه الضديةِ قراءاتُها المنطقيةُ المنطلقةُ من الإنسان الذي تتناوبُه الرغبةُ والرهبة، والحرصُ والتفريط، والثقةُ والشك، وساعاتُ يومٍ ممتعٍ وممل، ووقائعُ مبشرةٌ ومنفرة، وعلاقاتُ عمر وفيةٌ ومصلحية، ولأنه الأصلُ فلديه الفصل، وإذ هو قادرٌ فهو كذلك عاثر، والبشرُ - مهما تعددوا - يحيَوْن الرجاءَ والخوف، والتطلعَ والانكفاء.
** كذا أقدارُهم لو كانوا بإرادتهم، أمَّا وهم محكومون بأخبار الخراب واليباب فإن القلقَ من الغد قد يصيرُ حالةً مَرَضيةً (كرونوفوبيا)، وهو أمرٌ ناقشه صاحبكم مع أصدقاءَ في بعض الوسائط الرقمية إذ طُلبَ منه تناولُه بلغةٍ تصطف إلى جانب الإيمان اليقينيِّ بالله سبحانه، وبقدره خيرِه وشرِّه.
** الزمنُ هو البعد الرابع بجانب الطول والعرض والارتفاع - وفق نظرية الزمكان الآينشتاينية التي ظهرت مطلع القرن العشرين- وباجتماعهما (الزمان والمكان)، ندركُ أنهما لم يوجدا قبل التكوين، ويتلاشيان بعده لينحصر تأثيرهما بين الولادة والوفاة؛ فلم نكن شيئًا مذكورًا، كما ستبدلُ الأرض غيرَ الأرض، ويومٌ عند الله كألف سنة، وهو ما يعني أن مئة عامٍ يعيشها المعمرون هي عُشرُ يومٍ في حساباتِ الأبد، ومنها نوشكُ أن نفترضَ تفاهة الخوفِ؛ فمهما استطال سيبدو ضئيلًا ودون تأثيرٍ ذي بال، وحيواتُنا محصورة بين «عشيةٍ وضحاها».
** وإذن؛ فالغدُ والأمس مفهومان هلاميان لا وجودَ لهما في حسابات الزمن؛ فما مضى قضى، وما لم يجئْ غائب، واليوم هو الآن الذي سيدخلُ في حسابات الماضي المتلاشي ليصير آنًا، وحين نجيد التعاملَ معه فسيتمثلُ به المكانُ روايةً والزمانُ درايةً ولا وجودَ لسواه، ومن يُنصف نفسَه في يومه فسيكسبُ الفائتَ والآتي.
** تفرضُ الأحداثُ علينا القلقَ مع أننا لا نعلمُ حالَها ومآلَها، فلسنا رقمًا في صناعتها، والتركيزُ على اليوم الذي نُحسُّه كفيلٌ بمحوِ التوجسِ والتحسسِ، والتفريقِ بين الهمِّ والوهمِ، والاستعدادِ للغياب وما وراءه؛ فقد جئنا لنرحل، أما من يتعاملون بإيحاءِ أنهم باقُون فعليهم محاكمةُ أحكامهم، وسيكتشفون ألّا ماضيَ كسبوه ولا قادمًا صنعوه.
** نغفلُ عن حقائقَ أهمَّ من افتعالِ صراعٍ داخليٍ في أنفسنا، وخارجيٍ مع غيرنا، ولو وعينا قيمة اليوم لنسينا الأمس كي يجيءَ الغدُ بأريحيةِ الطمأنينة، وانسيابيةِ الإيمان.
** ليتنا نوفرُ مخاوفَنا لنوجهَها نحو نفوسنا «الأمّارة»؛ فقد نَظلمُ حين تأمرنا، ونُقصِّرُ إذْ تنهانا:
** الحقُّ أن تخشى الذي يُخشى
ويميط عقلُكَ منطقَ الأعشى
فترومَ مجدًا يرتقيه غدًا
من يُشعلُ القنديلَ في الممشى
ويعانقَ التاريخَ من وهبوا
مسرىً إلى العلياءِ لا نعشا..
** اليوم هو الأمس والغد.