خطر ببالي شيء فغردت: عمارة الأرض تختلف عن إدارتها?
إدارتها جزء من إدارة الكون، والله وحده هو القادر على إدارة الكون، وهو الذي سخّرنا لعمارتها.
ويصدف أن يتحاور ستة من الأصدقاء ـ وكنت أحدهم ـ عن الثقافة وأحوال جيل الأبناء والأحفاد فنختلف في جوانب ونتفق في أخرى، وهو أمر طبيعي لكننا جميعًا على قناعة أن الأجيال تختلف.
ويصدف أيضاً أن أقرأ كتاب الزميل والصديق الدكتور إبراهيم التركي (الذاكرة والعقل .. قراءة في المتغيرات الثقافية)، حيث تفضل بإهدائي نسخة لا يمكن الإلمام بمحتواها من خلال استعراض سريع وإنما بقراءة متأنية، حيث خلُصتُ إلى أن قاسمًا مشتركًا يجمع بين حواري مع الأصدقاء وتغريدتي وكتاب (الذاكرة والعقل) .
القاسم المشترك هو القناعة بأن جيل الأبناء له حريته واختياراته وقناعاته المختلفة عن قناعاتنا واختياراتنا وحرياتنا، ويجب ألا نحول بينهم وبينها ليس من باب الاحترام لقناعاتهم ولكن لعجزنا الحقيقي على الوقوف كحائط سد أمام قناعاتهم، وقد عنيت ذلك بالفعل في تغريدتي بعد استعراض طويل لكثير من أحوالنا التي ساد فيها أسلوب التسلط، والتحكم في مجتمعاتنا من قِبَل جيل أو مجموعة أو تيار فكري يزعم أنه الأفضل ولابد من إخضاع المجتمع له حتى وإن لم يقتنع المجتمع بذلك، لأن المتسلط لا يهمه إلا الاتباع.
عمارة الأرض لا تتحقق إلا باختلاف وتنوع الأفكار والنشاط والإنتاج، حيث يتم تبادل المنافع واكتمال النواقص واكتشاف المجهول، وأغلبنا على قناعة تامة بحتمية التغيير غير أن بعضنا تتملكه الحسرة على زوال ماضيه.
عدد صفحات كتاب (الذاكرة والعقل) للدكتور إبراهيم التركي (108) صفحات، واشتمل على فصلين هما الذاكرة والرقم، والعقل بين المبنى والمعنى بالإضافة إلى الإهداء والمقدمة وإحالات وخاتمة، والكتاب فيه استعراض وتشخيص وبعض الحلول، وبين السطور تلميح وتصريح وحدة في القول، وتشاؤم، ونعي، وشيء من التسلط، ومهادنة هي أشبه ما تكون باستسلام من يعجز عن المقاومة التي تسد الثغرات بقوة تمكنها من مفاصل قوة المؤلف ذاته، ويقول التركي في المقدمة عن الكتاب : على الرغم من تجاور «الألف والباء» إلا أنهما لا يلتقيان إلا في كلمة واحدة ذات معنى إن تقدمت الألف، وأخرى لا تعدو أن تمثل دلالة صوتية إذا سبقت الباء، وغيرهما إذا تبدلت الحركة، وحينما تتداخل معهما أو تدخل بينهما الحروف تنتج معانٍ وأصواتٌ وحكاياتٌ ودلالات، ما يعني أن التجاور لا يفيد التحاور ولا التزاور، وكذا تستجيب الجغرافيا لهذا المفهوم، فتايوان والصين، وكوبا وأمريكا ، وإيران والخليج بقرب الألف من الباء وببعد الأرض عن السماء، والذاكرة والعقل يشبهان هذا الاقتراب ـ الاغتراب، وحولهما تدور مباحث الكتاب.
لقد قسّم الدكتور التركي الفصل الأول (الذاكرة والرقم) إلى عشرة أبواب ـ ترقيمًا ـ كأنه يتعمد أن يكون الترقيم له دلالة على مضمون تلك الأبواب، وعلى الرغم من أنه من المتعاطين للتقنية ومتصالح مع بعض التطبيقات الحديثة في هاتفه الذكي، إلا أنه متشبث بتقليدية المكان فكثيراً ما يطالع متابعيه وهو في مكتبته وبيده كتاب يوشي بأن ما يقوله استقاه من المكتبة أو الكتاب الذي بين يديه، وأحسب أن هذا تسلطاً عاطفياً ـ إن جاز لي التعبير ـ حيث مارس نفس التسلط العاطفي مع أبنائه في الإهداء فقال : وإلى الأسرة الصغيرة ... إرث لم تختاروه .. فاختاركم.
جميع جيلنا يدرك تماماً أن الحياة قبل عصر تطور وسائل المواصلات وبزوغ عصر التقنية كانت حركتها بطيئة والتفاعلات مع معطياتها تأتي متأخرة إلا ما كان في محيطها الضيق، ولذلك لم يدرك كثير من المتأخرين الكثير من المتقدمين فأثّرت المسافة الزمنية والمكانية على جودة بعض نتاج المتقدمين، ولم يتمكن المتأخرون من مناقشة أو معارضة أو مناجزة المتقدمين ونتاجهم، ولم يكن في وسع بعضهم إلا المحاكاة أو التسليم والاتباع.
وفي مقدمته لكتابه (الذاكرة والعقل) يعترف الدكتور إبراهيم التركي متحدثًا باسم كل جيلنا فيقول :لم يكن أكثرنا خصوبة خيال قادرًا على التنبؤ بما صار قبل أن يصير، كما أننا لسنا قادرين على توقع ما سيكون قبل أن يكون، وما نظنه مستقرًا لا يعدو أن يكون ممرًا، وما نحسبه النهاية مجرد سطر في البدايات، والذي تعلمناه أمس صار قديمًا اليوم.
فإذا كان هذا حال جيل أدرك سرعة وتطور وسائل المواصلات وتعامل واستفاد من ثورة التقنية فما بال المتقدمين، ولماذا يحاول جيلنا فرض تفكيرنا وثقافتنا على جيل أبنائنا وأحفادنا بالتسلط أو بالإقصاء أو التهميش أو التعالي؟، ولعله ذات الحال حدث مع المتقدمين فقلدنا من كان يرفض ثقافتهم ويقمعهم بطرق ووسائل وأساليب وصلت لحد الحكم عليهم بالإعدام.
أيضاً يعترف التركي في مقدمته اعتراف الفاقد قدرته على السيطرة والتسلط فيقول : .. وكما لم يستطع العقل عقلنة منتجاته فإن مخرجات الثقافة لم تتواءم مع مدخلات الزمن التقني «غير المتصور»، فتقاصر دور المثقفين وتضاءل دور الكتاب.
لا أتذكر الآن أين ومتى كتبت عن دورة إذاعية تلقيتها في مسقط عام 1984م مع عدد من الزملاء والزميلات من دول الخليج، وفي تلك الدورة ركّز المحاضرون على أهمية الثقافة للمذيع، وقد أجمعوا أن الكتاب هو المصدر الأساس للتثقيف، وقد عارضت بشدة إجماعهم ـ وانتصرت ـ خاصة أننا إذاعيون يفترض أن تكون وسيلتنا أيضاً مصدرًا للتثقيف بالإضافة إلى المسرح والسينما وكل ما هو يضيف بالمشاهدة أو الاستماع ثقافة للمتلقي.
لقد تذكرت تلك الدورة وأنا أقرأ قول الدكتور إبراهيم التركي (وكما لم يستطع العقل عقلنة منتجاته فإن مخرجات الثقافة لم تتواءم مع مدخلات الزمن التقني «غير المتصور»، فتقاصر دور المثقفين وتضاءل دور الكتاب)، وأحسب أن اللوم لا يقع على جيل الأبناء والأحفاد الذين لم يجدوا جسورًا للتواصل بيننا وبينهم، وإن وجدت بعض الجسور فإننا نطالبهم بالسير عليها حفاة كما مشينا نحن طاعة وليس قناعة، لقد وجد الأبناء والأحفاد جسورًا أفضل بينهم، وكذلك جسورًا ممتدة لمستقبلهم الذي اختاروه ولم يفرض عليهم كما فرض على آبائهم.
لقد خلص الدكتور التركي في الباب أو المبحث (1) من فصل الكتاب الأول بعد استعراض لأنواع ومسميات الوسائط الحديثة ألا اختلاف بينها، حيث يقول (المحور الأجدى للنقاش هو إضاءات هذه الوسائط وإضافاتها وأمانها وأجواؤها ويسر التفاعل عبرها ونوع جمهورها ومستوى طرحها)، غير أنه اختتم هذه الفقرة بحكم قاطع متعالٍ بقوله: وفي العبارة « المترجمة» الذائعة:» النفايات الداخلة نفايات خارجة» فهل خلت الكتب عامة من النفايات؟
قلت : إن كتاب الذاكرة والعقل للدكتور إبراهيم التركي فيه استعراض وتشخيص، وأضيف أن الكتاب هو لسان حال كثير من المثقفين، وكذلك تيار أو جماعة الصحوة، ولأن الجميع متفق على أن التقنية ووسائطها ليستا المسؤولتين عن المحتوى أو المدخلات، فإن التركي يتوقع حدوث إشكال ثقافي ومأزق أخلاقي فيقول : فكل ما تصنعه أو تحاول أن تصنعه معادلة « التربة والتربية» التي يتكئ عليها منطق البناء النفسي والعلمي والسلوكي ستتبدل وفقا لمدخلات الوسائط ومخرجاتها بمتحركها المؤثر في المجموع وساكنها المؤثر في الفرد.
والحقيقة التي يجب ألا نغفل عنها أن التربة لم تعد البيت والحي والقرية والمدينة والبلد الذي كان يسيطر على تربته الضيقة، فالتربة اليوم سماء مفتوحة لا حدود فيها بين المرسل والمستقبل، أيضاً لم تعد التربية ـ بعيدًا عن المعتقد الديني ـ التي أصّلت الكثير من العادات والتقاليد بل وألحقتها بالمعتقد الديني هي ذات التربية، وواقع حال المجتمع يفصح عن ذلك جهارًا وليس إلماحًا كما فعل الدكتور التركي، حيث يشير إلى مخطط استراتيجي للتغيير والتطوير فيقول : وسوف يتولد عنهما (أي التربة والتربية) صراع بين ما يريده المخطط الاستراتيجي للتغيير والتطوير وما تصنعه عشوائية الوسطاء بعزلة عن توازن أساسات التربة وجهود التربية ونواتجها العلمية والعملية.
وهنا أجد أن ليس في الأمر جديد سوى تبدل المتصارعين فهذا الصراع حاصل منذ القدم، غير أن ما أحب الاستشهاد به ـ لقرب المسافة الزمنية ـ هو ما حدث من صراع عند ظهور أشرطة (الكاسيت)، (والفيديو)، والقنوات الفضائية، والاختلاف متجسد فقط في قدرة المتسلط الذي لم تمكنه السماء المفتوحة من التسلط.
كتاب (الذاكرة والعقل) للدكتور إبراهيم التركي يتحدث في مقدمته ومعظم فصله الأول بلسان أكثر من جيل استقى ثقافته وكوّن شخصيته وربما رسم مستقبله من خلال المكتبات الورقية والتي كونها أصحابها تكوينًا مرحليًا وفق قدرات شرائية ثم إدراكية وثالثة بتوجيه معلم أو موجه ورابعة؟، بدافع التطلع إلى فهم جديد ألزمته به مهنته أو تخصصه العلمي والرغبة في التميز عن الأقران بالإضافة إلى ما ورثه البعض من آبائهم.
وعلى الرغم من أن التركي قد ختم الباب (1) في الفصل الأول باستفسار أشبه ما يكون بصيحة من ضاقت به السبل حيث يقول :.. فيما يدور ويدار ويثور ويثار لا يحكم لها أو عليها ( يقصد الوسائط الحديثة) بوصفها «الوعائي» المحايد بل بما تحمله من نضار أو غبار، وهنا يطل استفهام مهم حول الورق، فهل نحرقه؟.
ولأن التركي على يقين أن صرخته لن تجد لها صدى في عالم التقنية عمد إلى إثارة العواطف من خلال النبش في الذكريات التي تكون ملاذًا لكثير من مجتمعنا ليس في الشأن الثقافي بل وحتى في الحياة المعيشية بشكل عام فقال : لا أجمل من الكتب القديمة إلا مؤلفوها، ولا أنقى من سواد كلماتها غير بياض مضامينها، والهروب معها من جنون العالم شعور بالأمان.
والحقيقة أن صرخة التركي ليست قاصرة على الكتب الورقية بل هي شاملة لعالم الطباعة والمطبعة التي كانت يوم ظهورها فتحًا عظيمًا للإنسانية، فاتسعت المعرفة وشملت كل أرجاء الأرض، فالتقنية تهدد عالمًا صناعيًا بمواده الخام وأدواته ومهنيّ الطباعة.
في لقاء تلفزيوني أجريته ذات عام لا أذكره مع الشيخ عبد الرحمن بن عقيل الظاهري لصالح شبكة راديو وتلفزيون العرب، حدثني عن درجة عشقه للقراءة والكتاب أنها بلغت قيامه في منتصف الليل والنزول إلى المكتبة، وأخذه كتابًا ووضعه على صدره كما هو حال عاشقين التقيا بعد فراق.
ولقد حظي الدكتور إبراهيم التركي مؤلف كتاب (الذاكرة والعقل) وكثير من أقرانه برعاية أبوية تعليمية ثقافية، بالإضافة إلى مجتمعه واجتهاداته وعمله، فاتسعت المدارك ووعت أهمية الكتاب والمكتبة، وأصبح هناك تفاعل نفسي مع هذا العالم الذي هو بحق أس التنمية والوعي وكذلك التطور الصناعي وجودة الإنتاج وكل ما يتعلق بالفكر والعلوم الإنسانية، ثم إن الأمر لم يعد قاصرًا على الشعور بالتملك لكتاب أو مكتبة ولا الشعور بعظم المنفعة من تلك الكتب والمكتبات، وإنما الأمر أصبح بالنسبة له ولكل طائفة المثقفين هوية يجب الحفاظ عليها، ولذلك توسع في الحديث عن هذا الشأن بالاستعراض وضرب الأمثلة والاستدلال في معظم صفحات الفصل الأول من الكتاب، وذلك ما أوصله إلى تجاوز ـ بعد إقراره بالحقيقة ـ (التبدل هو الأصل، والتطور طبع الحياة) قضية الحفاظ على الكتب والمكتبات إلى الخوف من صراع ثقافتين إحداهما تعتمد على الأسلوب التقليدي والأخرى مكتسحة ومتصدرة كل مشهد وهي ثقافة التقنية والوسائط الحديثة، فيقول في القسم (4) من الفصل الأول : والقضية الأهم هنا متصلة بالسعي الملحّ لمنع التصادم بين ثقافتين متجاورتين تتأزمان في مبتدأ المُدخل الجديد إلى حين إفراغ كلتيهما ما لديهما من نقائض ونواقص، فإذا جرى استيعابهما وصلت الثقافتان إلى رؤى متقاربة متفاهمة تتبدل فيهما اقتناعات وسجالات وتتجدد علائق وطرائق.
لعلي أثقلت على من يتابعني ببطء قراءتي لكتاب (الذاكرة والعقل) للدكتور إبراهيم التركي، وكان من المفترض أن أخلص إلى تلخيص عام وشامل وليس إلى الإطالة بالتعليق والمناقشة، غير أن عدم تخصصي في النقد يشفع لي، وما أكتبه هو انطباع وفهم شخصي ليس بالضرورة أن نلتقي جميعًا فيه، كما هو الحال في عدم التقاء القراء أو توافقهم في الرأي مع كل ما طرحه التركي في كتابه.
واختصارًا لوقت من يتابعني فإني أختصر قراءتي للفصل الأول من الكتاب فأصل إلى ما أظن أنه مهم جدًا لحل مشكلة المكتبات الخاصة والكتاب الورقي المتوقع توقف إنتاجه يومًا ما حيث يقول المؤلف: ما مضى مجرد إضاءات صغرى حول قضية ثقافية كبرى تتصل بالنتاج غير المطبوع والمكتبات غير الرسمية، وهما جناحان مهمان من أجنحة المعرفة لم يجدا عناية تكفي كي نطمئن إلى حفظها وتسجيلها وحمايتها من التيه والتلف، فهل لها من يحتويها؟ وهل نتطلع إلى وقفية تلم شتات ما تبعثر وما يوشك أن يتبعثر.
هذا المقترح الممزوج بالتساؤل والتطلع من المؤلف لابد أن يتجسد في مشروع ثقافي ضخم وقفي أو استثماري من قبل القطاع الخاص أو وزارة الثقافة، بحيث تجمع فيه أبرز المكتبات الخاصة ـ إهداءً أو شراءً ـ ليس فقط للحفاظ عليها وإنما لإتاحة الفرصة للدارسين والباحثين ومحبي التراث للاطلاع عليها مقابل رسوم تدفع لصالح خدمات المشروع، ويمكن أن يضم المشروع أيضاً أقسامًا ملحقة بتلك المكتبات تعنى بالسير الذاتية لأصحابها بالصوت والصورة كمادة فلمية.
أما ما يتعلق بغير المطبوع فأعتقد أنه من الواجب ألا تكون في كتاب ورقي بل لابد من استغلال معطيات التقنية الحديثة وإخضاع تلك النصوص لأسلوب جديد مختصر متناسب مع الوعاء الحديث ومراعيًا ثقافة المستفيدين من الوعاء?
بعد أن أنهى الدكتور إبراهيم التركي الفصل الأول من كتابه (الذاكرة والعقل) حيث عنونه بـ (الذاكرة والرقم)، واستعرض فيه كل أشكال التحول الرقمي الذي يفقد تقليدية التعليم والثقافة والإعلام جلالها واتزانها وارتباطها الزماني والمكاني بالملموس كتابًا ومكتبًة، وحاول استثارة العواطف ثم أبدى تخوفه من نهج ودقة المدخلات وما قد يقع من صراع ثقافي، وادعاء معرفي، وتناسٍ للمؤثرين وربما لمؤسسي العلوم حيث الاهتمام فقط بالناتج دون الاهتمام بالمرجعية، انتقل إلى الفصل الثاني والذي عنونه بـ (العقل بين المبنى والمعنى) وقسمه إلى (10) أقسام، حيث يتناول فيها من خلال الاستعراض والتشخيص أهم وأبرز التغييرات السياسية والفكرية والفقهية، وما أحدثته من تحولات بل وما حدث لها من تغيير بتأثير من المرحلة أو الزمن الرقمي.
في الباب (2) من الفصل الأول يصل التركي بعد استعراضه لقضايا أو حالات كان فيها العقل متسيدًا مبتعدًا عن النفل، وأخرى المعتمدة على مناقشة النقل بالبحث والمحاجّة إلى أهمية نتيجة ملموسة فيقول : يتجاور العقل والنقل فينتجان حجاجًا ثريًا من غير أن يغنى جانب فيطغى أو ينكسر آخر فينأى، وفي التوازن دروب لا تلتفت ولا تفتئت. ولأن الحجاج يقصي اللّجاج فثمة استفهام تالٍ حول العقل الرقمي.
وبهذه الأسطر مهّد المؤلف للتقليل من قيمة العقل الرقمي المعتمد أصلًا على تلقٍ أو إدخالٍ وليس ببحث ونقاش وحجاج فيقول : كيف تعمل مراكز التذكر والتفكير والتقدير والتدبير بموازاة المساحات الذهنية والروحية والنفسية والوجدانية المتصلة بالعقل الهادي والهاذي والقلب النقي والشقي وبخاصةٍ أن عقل الزمن الرقمي هو المسيطر والمتصدر.
أحسب أن إشكالية غير متعمدة وقع فيها الدكتور إبراهيم التركي في الفصل الثاني من كتابه (الذاكرة والعقل) أو ربما هي ازدواجية في التشخيص والقناعات التي يؤمن بها حيث أقر في نهاية الفصل الأول بقوله : الاتكاء على العقل لا يعدو أن يكون سعيًا لتتويجه كي يصبح سلطانًا آخر يشبه سلطوية القبيلة التي تؤجر فكرها لما يراه أسيادها.
هذا القول يعني رفضه للتسلط الفكري الذي يحول دون تفكير الآخرين ويجبرهم على التسليم بالرأي الفردي، وجميعنا يدرك أن ذات المخلوق غير كامل فكيف بعقله، ثم يأتي التركي في نهاية الباب (1) من الفصل الثاني ليؤكد أهمية تجاور العقل والنقل ويتساءل عن العقل الرقمي ـ الذي حَكَمَ عليه من قبل بأنه عقل رخوي ـ، ثم يبدأ الباب (2) من الفصل الثاني بقوله : كيف تعمل مراكز التذكر والتفكر والتقدير والتدبير بموازاة المساحات الذهنية والروحية والنفسية والوجدانية المتصلة بالعقل الهادي والهاذي والقلب التقي والشقي وبخاصة أن عقل الزمن الرقمي هو المسيطر والمتصدر، وهو عقل «رخو» تبلغه المعلومة وهو شبه نائم في سريره فيحاكمها ويحكم لها أو عليها دون أن يعلم من أفتاه؟ أعقله بعد بحث ومقاربة وتأمل أم شهوة الحكي ولذة المحكي ونجومية المشهد؟ أما القلب فالظن ألا حضور له.
وبالطبع هذا تجن آخر على العقل الرقمي بتجريده من القلب والمشاعر، وكأن العقل الرقمي آلة صماء تصدر الرأي والقرار من ذاتها وليس بفعل المدخل أو المبرمج.
وهنا لابد أن نقر جميعًا أنه من الظلم أن يقود عقل جيلنا مستقبل الجيل القادم أو الجيل الرقمي، فهذا تسلط فكري عانى منه جيلنا وكنا نطمح أن نملك قدرة وشجاعة جيل الزمن الرقمي لمواجهة التسلط وتملك الحرية الفكرية.
الصراع الثقافي الذي أشار إليه الدكتور إبراهيم التركي في كتابه (الذاكرة والعقل) هو قائم بين الأجيال منذ القدم، وقد تكون الصراعات فيما سبق مرحلية وتستغرق وقتًا طويلًا ليلتفّ المؤيدون حول كل فريق من المتصارعين ثم تكون الغلبة الشكلية لأحد الفريقين، وهي في الغالب تكون للأقوى سلطة وليس حجة أو إقناعًا خاصة فيما يتعلق بحرية الفكر.
الصراع الثقافي في الزمن الرقمي أسرع وأقوى وأشرس، وأتباعه أكثر وأصغر سنًا، والتبعية فيه ليست لفرد أو قبيلة وإنما لمنتج يحقق للتابعين رغباتهم ويتماشى مع قدراتهم، وهو سلاحهم في مواجهة التقليديين الذين يفتقرون إلى المعرفة التقنية التي يسيطر عليها جيل الزمن الرقمي.
ولا أتفق مع الدكتور التركي في تخوفه من ذلك الصراع، ولا من استراتيجية الزمن الرقمي المعتمدة على تصدير الأسئلة بـ (كيف) وليس بـ (من)، (فكيف) هي التي تقوده إلى المعرفة والتعلم بينما (من) التي يصدِّرها في قائمة أسئلته الجيل التقليدي لا تهم جيل الزمن الرقمي، لأنها تعني التبعية والسطوة التي تذمر منها ثلة من مثقفي الجيل التقليدي وخاضوا معارك كثيرة ـ لم ينتصروا فيها ـ للتخلص منها خاصة فيما يتعلق بالمنهج الفقهي الذي تبرز فيه الخلافات، ولا يمكن أن يتسيد المشهد إلا من كان بيده سلطة تفرض ذلك الرأي.
وقد أقر التركي في الباب (2) من الفصل الثاني بعدم قدرة التبعية ـ وهي التي تصّدر (من) في أسئلتها ـ على خلق مجتمع فاضل حيث يقول : لم تستطع الأبوية خلق مجتمع فاضل في زمن انتشارها، وسنعود إلى نظرية «التربة والتربية» حيث المنبت الطيب والرعاية المتوازنة ففيها مسيرة الزمن المطمئن والإنسان المطمئن.
ثم يتساءل التركي :هل هذا هو القول الفصل؟ بالتأكيد: لا، فللزمن الرقمي والعقول الأنوية منتجاتها العابرة لكل القواعد والمحطات.
الاختلاف حول الرأي والقضايا المتعلقة بحياة الناس مستمر حتى قيام الساعة، ولن يتحقق استقرار أو اتفاق حتى في القضايا الدينية، وتلك سُنَّة الله في خلقه وبعضٌ من إدارته للكون، حيث تدفع تلك الاختلافات إلى البحث من قبل كل فريق للوصول إلى الحقيقة التي يستوعبها عقل الباحث وليس الحقيقة الكاملة، وسبب ذلك محدودية القدرة العقلية للإنسان.
وكما أقر الدكتور إبراهيم التركي في الفصل الثاني من كتابه (الذاكرة والعقل) أن مكانة العقل أجدى من مكانه، فإنه لابد من الاعتراف بأن العقل مُنح لكل الأجيال ومنهم جيل الزمن الرقمي، وأيضاً يجب ألا نفرض على عقولهم طريقة تفكيرهم، ولا نستغرب أو نعيب قلقهم وتحولاتهم، فهو نفس القلق وذات التحولات التي استعرضها التركي لعدد من الأسماء لمفكرين وفلاسفة في فترات متباعدة زمنيًا بل ولجيله الذي شهد أيضاً قلقًا وتحولات لدرجة المجاهرة بالشك وترك الصلاة والإيمان بالغيب، وقد قادته هذه الأمثلة إلى واقع حديث جدًا في مجتمعنا الذي حُرمت عليه ـ بحكم تسلط تيار أو فريق ـ دراسة الفلسفة، ثم هو ذات المجتمع يقرها الآن مجاهرة، حيث يرى التركي ضرورة الحوار حول هذه القضايا فيقول : الحوار حول هذه القضايا مُلح إثر عودة دراسة الفلسفة وتدريسها إلى الواجهة دون منع أو قمع، وهي ظاهرة إيجابية، وبخاصة إذا فاء إليها الشباب الذين يستأثر بهم تسطيح الوسائط الرقمية وشقاق القنوات الرياضية وإلهاء الاستراحات والاحتفالات، وعندما يجدون التعددية الفكرية التي لا تصفّي بعضها ولا تصادر نبضها ولا تستجير من الرأي إلا بالرأي.
وهنا أعيد القول إن كتاب الدكتور التركي هو (استعراض وتشخيص) ولا يخلو من نزعة تسلطية لكل جيلنا التقليدي الذي يحاول السيطرة على جيل الزمن الرقمي بالعقل تارة، وبالنقل أخرى، وثالثة بادعاء تملكنا للثوابت التي هي أصلًا واجهت صراعًا ثقافيا بين الأجيال السابقة.
في كل القضايا والنماذج التي يستعرضها الدكتور التركي في الفصل الثاني من كتابه (الذاكرة والعقل) يشير إلى أن سبب الخلافات فيها وبين أصحابها مرده اعتماد البعض على منطق العقل أو النقل بالإضافة إلى التأثر العاطفي للقلب، ولا يخلو حديثه من همز ولمز يوحي بتجريد الزمن الرقمي من القدرة العقلية لأنه رخو، ولأنه متلق لا يجتهد في صدق أو حقيقة ما يرده عبر الوسائط، ويفتقد إلى المشاعر والأحاسيس التي مبعثها القلب.
يقول الدكتور التركي في الباب (4) : للعقل ميدانُه كما للقلب فضاءاته، وصفاؤهما دافع نحو مزيد نقاءٍ وعطاء، أما حسابات الأنظمة والقوانين والمنع والردع فقد تنجح آنًا وتخفق آنات، ولعلنا نلتفت لمثل هذه الموضوعات ولو لم تحظ بجماهير تصدق وتصفق لأنها ستهيئ النشءَ لاستفهاماتٍ تلد استفهاماتٍ تضيءُ فلا تعتم وتضيف ولا تخيف.
أحسب أن إقرار التركي بأن الاستفهامات تضيء إنما هو لترجيح كفة الجيل التقليدي، حيث إن الزمن الرقمي غير مهتم بالاستفهامات لأنه متلق كما أشار من قبل فقال : الزمن الرقمي هو المسيطر والمتصدر، وهو عقل «رخو» تبلغه المعلومة وهو شبه نائمٍ في سريره فيحاكمها ويحكم لها أو عليها دون أن يعلم :من أفتاه؟ أعقله بعد بحثٍ ومقاربةٍ ومقارنةٍ وتأمُّل أم شهوة الحكي ولذة المحكي ونجومية المشهد؟ أما القلب فالظن ألا حضور له.
وهنا أجد من الضروري أن نسأل : من الذي صدّر الزمن الرقمي؟ هل هي كائنات فضائية لا عقل ولا قلب لها؟ أم أن الزمن الرقمي شيء هلامي لا حقيقة له؟ مع ضرورة الاعتراف بمصدر ومتلقي في الزمن التقليدي والزمن الرقمي.
أحاول أن أنهي تسجيل فهمي وانطباعي الشخصي لكتاب الدكتور إبراهيم التركي (الذاكرة والعقل) لظني أن الفكرة العامة للكتاب قد أدركتها، ولا شك أن الهدف من الكتاب نبيل ويعبر عن وجهة نظر السواد الأعظم من المثقفين التقليديين، وكذلك العامة فالزمن الرقمي أصبح كالماء والهواء.
وأحسب أن الدكتور التركي أراد من إصداره هذا أن يسعى الجميع من خلال تفكير مسموع إلى تقارب بين جيلين فكريًا وثقافيًا حفاظًا على قيم وتراث ليس من السهل التخلي عنهما، ولا بد من خلال التفكير المسموع أن نُحدث نقطة التقاء وتواصل نبتعد فيها عن الإقصاء والتسلط والتهميش والتجهيل، وهذا هو الأفضل لمستقبل لن نعيشه، ولذلك يقول التركي في نهاية الباب (7) : ولعل الأهم هنا سؤالٌ قد لا تسعفه إجابة، فهل نحن قادرون على احتواء السبيلين : النخبوي والعامي؟ أم حان وقت فصلهما كي لا تلتبس المعلومات ويتردد المتمكنون ويتوارى الثنائيون في زمن صارت دقيقة الحديث الجاد طويلة وزوايا الكلمات مملة، والثواني في «التيك توك» والتغريدة في «تويتر» مصدر العلم والحكم، ولعلنا نبحث قضية الفضل والتفاضل بين العقل والتراث.
بالطبع ما ورد من همز ولمز في الأسطر أعلاه تجاه محتوى بعض الوسائط بُني على واقع نلمسه جميعًا، ولكن لابد أن نؤمن بأن ذلك المحتوى سوف يقود المتلقي إلى البحث وإلى طرح الأسئلة، وليس شرطًا أن نلمسه بشكل فوري فلابد من الانتظار حتى نتخطى هذه المرحلة الانتقالية والتي أشعرتنا ـ بمتناقضاتها ـ أن جيلنا مكث طويلًا دون حراك، وكان لتسلط فكرٍ وثقافةٍ أثر كبير في كل ما نشعر به.
أصل إلى خاتمة كتاب الدكتور إبراهيم التركي (الذاكرة والعقل) والتي خصصها للحديث عن المثقف مستعرضًا الأسماء والتعريفات والاختلافات حول تحديد ملامح أو صفات المثقف، حيث يقول : عانى مصطلح المثقف ويعاني من غُربة في مداده وخلط في امتداده، فقد وفد إلينا ولم نستضفه، وعاش بيننا ولم نألفه، وسيظل في مرمى التفكيك والتشكيك، فالمثقف العضويّ ـ وفق «غرامشي» ـ هو نفسه المثقف المؤدلج عند «فوكو»، وهو من حاكمه «إدوارد سعيد» في «خيانة المثقفين»، «وعلي حرب» في «أوهام النخبة»، وعبد الإله بلقزيز في «نهاية الداعية»، وغيرهم في غيرها، فالثقافة لا تُسام لكن الذاكرة تُضام والعقل يُلام.
أغلب ظني أن عالمنا العربي قد أضاع وقتًا طويلًا جًدا في قضايا لم تغن ولم تسمن من جوع، ومنها الانشغال بتحديد (من) وليس (كيف)، ولو قام التركي بمحاولة حصر للمثقفين باختلاف توجهاتهم وقضاياهم ومواقفهم فإن أجزاءً كثيرة من الكتب سوف يُصدرها في هذا الشأن ثم يصل ومن يطّلع على تلك الأجزاء إلى ذات المتاهة والاختلاف، فالذاكرة في الزمن الرقمي أصبحت إلكترونية، والعقل أخضعته التقنية لبرمجات نتائجها دقيقة لا مجال فيها لذات الاختلافات التي استعرضها التركي في تعريف المثقف من قِبَلِ من يُعدّوا من رموز الثقافة.
ثقافة الزمن الرقمي تعتمد على (كيف)، وقيمتها تحدده نتائج محسومة وذات فائدة في حياة الناس اليومية، ولعلي لا أبالغ إن ادّعيت أن من صمم تطبيقات الخدمات خاصة في زمن «كورونا» لا يعرف أغلب المثقفين الذين استعرض أسماءهم التركي، ومع ذلك هل لأحدنا القدرة على الاستغناء عن تلك التطبيقات؟ بورك الزمن الرقمي وما يقدمه لنا من خدمات فهو ثقافة اليوم.
** **
- عدنان صعيدي