د. محمد بن إبراهيم الملحم
التدريس المنزلي Homeschooling هو عدم ذهاب الطالب للمدرسة وبدلاً منها يقوم والداه بتدريسه في المنزل ولا يكون السبب وباء مثل كوفيد-19 أو أسباب أخرى كالحروب أو طبيعة عمل الوالدين في مناطق نائية، فذلك التعليم المنزلي هو نوع من الضرورة ألجأت الوالدين إليه، وهو أيضاً ليس الدراسة في المنزل أونلاين، حيث يتلقى الطالب الدروس من خلال منصة إلكترونية يشرح فيها معلم المدرسة الرسمي الدروس وهناك جدول للحصص وواجبات وحضور وغياب، تماماً كما شهدناه في منصة التدريس عن بعد، فهذا النوع من التعليم ليس هو المقصود بالتعليم المنزلي، ولكن ما نقصده في هذه المقالة هو توجه الوالدين إلى تعليم أطفالهم في المنزل بشكل اختياري كامل مع توفر المدرسة متاحة للطالب بكل يسر وسهولة، وهو نوع من التعليم يختاره بعض الوالدين لإيمانهم بما يحمله من مزايا خاصة ولتحوطهم من السلبيات التي يحملها التحاق طفلهم بالمدرسة وأقلها ما سقته لكم من شواهد في سلسلة المقالات السابقة «العلماء والمدرسة»، حيث وضحت تلك الشواهد كيف أن جو المدرسة النظامي الصارم بما فيه من قيود وواجبات وأعمال (مضيعة للوقت أحياناً) كان محل تذمر من أولئك العلماء وسبباً لرفضهم الالتحاق بها أو على الأقل الالتحاق بها مع اعتبارها شراً لا بد منه، واتضح لنا كيف أنها ليست هي «المدرسة» التي صنعت عبقريتهم وتفوقهم، بل إن التحليل المباشر يوضح أنها قد تكون سبباً لكبت العبقرية وإجهاض التفوق والإبداع، وكل ذلك يدعوني إلى البدء معكم في سلسلة جديدة متممة لسابقتها في الواقع ومتكاملة معها لأتحدث لكم فيها عن هذا النوع من التعليم: فكرته وتاريخه ومزاياه وعيوبه وتطبيقاته في الدول المتعاملة به وكيف يمكن تطويعه في بيئتنا للاستفادة منه في استنبات علماء ينهضون بوطننا ويرتقون باقتصادنا وقيمتنا الدولية من خلال الابتكار والكشف العلمي المميز.
أولاً دعونا نتعرّف على أشكال التعليم المنزلي وهل هو في المنزل فقط أم أن التسمية تتعدى ذلك، والحق أن هذا هو الواقع، فهناك أنواع من التعليم المنزلي لا تكون في المنزل بالضرورة، بل قد تتفق عدة أسر متجاورة أن تخصص أحد المنازل لتدريس أطفالهم بواسطة أحد الوالدين أو ربما بواسطة معلم خصوصي، وربما كان التدريس في مبنى مخصص لجمعية تعاونية لهذا الحي أو ربما في أحد أماكن العبادة كالمسجد أو الكنيسة مثلاً، فكل هذا النوع ينتمي إلى التعليم المنزلي لأنه يتسم بالتحرّر من فكرة المدرسة وقيودها ويتجاوز سلبياتها. والتعليم الذي يحدث في المنزل لا يكون بالضرورة بواسطة الوالدين (وإن كان هذا هو الأغلب) ولكنه قد يكون بواسطة معلم خصوصي وربما بواسطة أحد المتطوّعين من العائلة كالإخوة الكبار مثلاً أو الجيران.
تسمية التدريس المنزلي Homeschooling هي المستخدمة في أمريكا ولكنه في أوروبا يعرف بالتعليم المنزلي home education أو التعليم الاختياري elective home education (EHE) وفي بريطانيا تنص وثيقة التعليم المنزلي أنه على الرغم من كون التعليم هناك إلزامي compulsory إلا أن الذهاب للمدرسة ليس إلزامياً بمعنى إنه يمكن تحقيق إلزامية التعليم للأطفال من خلال التعليم المنزلي، وتقدم السلطات التعليمية دليلاً متكاملاً يشرح كل متطلبات هذا النوع من التعليم وشروطه ومتطلباته لتضمن جودة حصول الأطفال على تعليم مناسب لهم، وهي تقدم كذلك الدعم للآباء الذين يدرّسون أطفالهم في المنزل سواء في المشورة أو المصادر المدرسية المتاحة أو الاختبارات أي مجال آخر يدعم تعلم الطالب بما لا يقل عن ما تقدمه المدرسة.
لقد بدأ هذا النوع من التعليم منذ خمسينات القرن العشرين وهو ليس وليد الأمس القريب وانتشر بشكل كبير في أمريكا وعدد من الدول الأوروبية، والواقع إنه جاء كردة فعل للتساؤل الذي طرحه كثيرون آنذاك حول فاعلية المدرسة، والسبب أنهم حينذاك كانوا قريبي عهد بفترة ما قبل المدرسة، حيث بدأ التعليم الإلزامي بأمريكا في خمسينيات القرن التاسع عشر وفي بعض الولايات تأخر حتى 1916 تقريباً، ولذلك خبر كبار السن طعم التعليم المنزلي وقيمته وقارنوه بالتعليم عبر المدرسة لتظهر نتيجة لذلك حركة التدريس المنزلي في الخمسينيات (قرابة 1950) كردة فعل لعدم الاقتناع بأداء المدرسة أو لما فيها من السلبيات الاجتماعية كالتنمر والضغوط النفسية المتنوعة، ولا يزال التدريس المنزلي مزدهراً حتى يومنا هذا، بل إنه في توسع، حيث يبلغ عدد الطلاب الذين يدرسون في المنزل بأمريكا مليونان ونصف وكان هذا العدد 850 ألف عام 1999 ثم تزايد بمعدل يتراوح بين 4 إلى 9 بالمائة سنويًا.