د. عبدالحق عزوزي
حذرت فرنسا منذ أيام على لسان وزيرها للاقتصاد برونو لومير من أن أزمة الطاقة الحالية التي تترافق مع ارتفاع كبير في الأسعار «شبيهة في حدتها بالصدمة النفطية في العام 1973». وتشهد أسعار النفط والغاز ارتفاعاً كبيراً منذ بدء الأزمة في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط وما تبعها من إعلان الولايات المتحدة حظر واردات النفط والغاز الروسيين؛ كما يأتي النزاع الروسي-الأوكراني في وقت ترتفع فيه أسعار النفط بقوة أساساً بسبب عدم كفاية العرض والانتعاش القوي للطلب في العالم الناجم عن رفع الكثير من الدول القيود الصحية المفروضة لمكافحة الوباء؛ كما بات ملف الغاز الروسي الذي يزود أوروبا بـ40 بالمائة من احتياجاتها الطاقية منه من بين الملفات المطروحة على طاولة التكتل لمعاقبة موسكو. لكن عقبات كبيرة تجعل الاتحاد الأوروبي غير قادر على تعويض السوق الروسية من الطاقة في الأمد القريب.... زد على ذلك أن دولاً عربية كثيرة تعتمد على استيراد القمح الروسي والأوكراني، ستواجه تحدياً كبيراً لضمان إمداداتها بهذه المادة الحيوية، في ظل الأزمة الأوكرانية والعقوبات الغربية الواسعة المفروضة على موسكو.... كما أن التداعيات تختلف حسب كل دولة؛ فعلى المدى القصير فإن أكثر الدول تضرراً هي لبنان واليمن؛ أما على المدى المتوسط فهناك دول مثل مصر ستكون في حاجة كبيرة لدعمها بالقمح....
والصحيح أنه ليس هاته هي المرة الأولى التي مرت أو ستمر منها الإنسانية بأزمات سواء كانت اقتصادية أو تجارية، بل إنه منذ أن تمكنت الرأسمالية من السلطة، بدت الأزمة حالة طبيعية غير أن العالم يعيش صدمات قوية واضطرابات كبيرة وتغيرات مهمة تؤدي إلى تغير الميكانيزمات التجارية والاقتصادية والمالية الدولية.
وأنا في هاته المقالة أرجع بالذاكرة لما جرى في بداية شتاء 2006، عندما وجدت العديد من الأسر الأمريكية الأكثر فقراً، والتي عرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ المالكون المثقلون بالديون في بيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفضت الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربوها «الانتحاريون» أنفسهم بمساكن مصادرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها إضافة إلى مشاكل السيولة...
تحولت المحافظ المالية المضاربة التي كانت تجلب أرباحاً مهمة للبنوك الأمريكية والأوروبية إلى كابوس مالي. ففي الواقع، وابتداء من منتصف 2007، بدأت كل الأصول المورقة تثير الشكوك واكتشفت البنوك الأمريكية ثم السويسرية والإنجليزية والألمانية والفرنسية أن لها شيئاً من هذا في كشوفاتها أي أنها محشوة بقروض عقارية غير قابلة للسداد مقسمة على الزوايا الأربع للكرة الأرضية في المنتجات المالية المتطورة والكل يريد التخلص من هذه الديون. والعديد من الدول بدأت ترى فرار رؤوس أموالها، وصارت البنوك في كل الدول المتقدمة قلقة مما يمكن أن يوجد من «سموم» في حساباتها وسارعت إلى قطع القروض على الكثير من المقاولات السليمة.
في بداية شتنبر 2008، تحولت أزمة الرهون العقارية إلى أزمة بنكية، وانهار البنك الأمريكي الشهير Lehman Brothers. ويرجع سبب هذا الفشل بالطبع إلى الاستهلاك القوي للأصول الموجودة في محافظ الرهون العقارية. وبلغت الخسارة إلى ما يقارب 4 مليارات دولار. فقد كان بنك ليهمان براذرز، ولمدة 150 سنة، بنك الاستثمار العالمي الذي يقترح خدمات مالية متنوعة، وحقق 4 مليارات دولار سنة 2006. فكانت النتيجة حصول ذعر شامل أصاب القطاع البنكي، حيث توقفت البنوك عن منح القروض، وصار الاقتصاد على وشك الاختناق. وبانهيار هذا البنك العملاق وبتأثير الدومينو، انخفضت أعمال البنوك الأخرى مؤدية إلى انخفاض حاد في المراكز المالية الدولية الرئيسية.
عبرت الأزمة في النهاية بشكل بطيء لكن بشيء أكيد، من الولايات المتحدة الأمريكية والمحيط الأطلسي لتصل إلى البنوك الأوروبية الكبرى، وبدأت تختفي الثقة تدريجياً كما ارتفعت البطالة وأضر الركود بالميزانية العامة للدول مع تراجع في النفقات...
إن أزمة القروض وأزمة الديون السيادية، والأزمة الاقتصادية العالمية المنبثقة عن الصراع الروسي-الأوكراني وغيرها هي فصول لنفس القصة. إنها المرحلة الاستثنائية لعالم اليوم الذي أصبح خارج السيطرة، والذي ينذر بشهور وسنوات عجاف على العديد من الدول وعلى النظام العالمي بأسره.