حسن اليمني
بدخول الجيش الروسي أوكرانيا انتهى عصر 1945م ودخل العالم عصراً جديداً، هذا التغيّر لم يأتِ أو يظهر صدفة أو تحصيل حاصل، وإنما أتى وظهر من خلال ثغرة اهتراء سياسة الاحتواء.
أسس المنتصرون في الحرب العالمية الثانية أي الاتحاد السوفييتي من ناحية وأمريكا والغرب من ناحية أخرى، سياسة الاحتواء بتقسيم العالم إلى شرقي وغربي وحلفين متقابلين هما حلف وارسو وحلف النيتو، بعدها انطلقت ما عُرِفت بالحرب الباردة بين الحلفين تحت غطاء سياسة الاحتواء، إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي عام 1991م اقتصادياً ودون حروب عسكرية.
تمزّق حلف وارسو وانضمت معظم دوله إلى حلف النيتو، وبقيت روسيا منكفئة على نفسها تعيد بناء اقتصادها حتى وصلت مرحلة الاطمئنان في عهد بوتين الذي أراد إعادة الكرة من جديد لتصعيد الدور الروسي مبتدئاً بالزحف في الغلاف الجيوستراتيجي في أوزباكستان وسط آسيا بتدخل سريع ونظيف إلى حدٍّ ما، ثم انتقل إلى أوكرانيا شرق أوروبا بحرب هزّت أوروبا دون أن يستطيع حلف النيتو عمل أكثر من فتح باب التطوع «الجهاد» والدعم لتصعيب الموقف على روسيا ليس أكثر مع التسليم بالأمر الواقع بعدم إمكانية المواجهة العسكرية مع روسيا عسكرياً بما يعتبر حرباً عالمية ثالثة، كما تصف أمريكا أو الحرب التي ليس بعدها حرب كما تصف روسيا.
بهذا الواقع الجديد صرنا لا نستبعد استرجاع الصين لجزيرة تايوان ولا نستبعد إنشاء دولة في شمال سوريا ولا نستبعد إلغاء قبرص اليونانية ولا نستبعد تحرير فلسطين أو إعادة احتلال غزة، وبالمجمل لا يستبعد إعادة رسم جغرافية كثير من الأجزاء المستقطعة بسياسة الاحتواء، الاحتواء بالمناسبة في أحد معانيه هو قبول أمر لصالح أمر أكبر وأهم، وما دام أن روسيا بدأت في تغيير هذا الأمر بالدخول في أوكرانيا وقبلها شبه جزيرة القرم، وإنشاء جمهوريتين شعبيتين في أوكرانيا أيضاً فإن نجاح روسيا يعني تحليل أو تشريع هذه السياسة التي تتيح للدول الأخرى اتباع نفس النهج الروسي في إعادة تصحيح جغرافيتها بما يحمي أمنها ويحقق مصالحها الأوسع، وما يساعد في نجاح هذا الاتجاه يكمن في انطواء حلف النيتو على نفسه والاكتفاء بالدعم والمساندة، وهو ما أظهره تجاه الحرب في أوكرانيا باعتبارها ليست ضمن الحلف وأن الحلف يدافع فقط عن نفسه، هذا ليس تعقل كما يبدو أو يحلو للبعض تصويره وإنما يعني انكفاء الحلف على ذاته لعجزه أو عدم رغبته في المغامرة والمخاطرة فيما هو خارجه، وهذا يخلق حالة من الارتداد للنفس لدى الدول الأعضاء، خاصة تلك التي ترى أن دورها بناء على طموحاتها أكبر من أن تنزوي داخل حلف منطوي على نفسه مثل فرنسا وبريطانيا وتركيا والانكفاء في الداخل، يعني تصغيرا وتقزيما لها في التفاعل الدولي، وبناء القوة الاستراتيجية في العالم، هذه الدول الثلاث تركيا وبريطانيا وفرنسا هي إمبراطوريات كانت عظمى في وقت من الأوقات، ودخلت النيتو تحت المظلة الأمريكية، باعتبارها الإمبراطورية العظمى في العالم، واليوم وهي ترى صعود إمبراطوريتين عظميين روسيا والصين على حساب انحسار لأمريكا العظمى، فالأمر لا بد أن يدعو للتفكير وتعديل المسارات، وهذا ما قد يظهر في المستقبل القريب، بل وبدأت ملامح ظهوره في فرنسا في التفكير من الخروج من حلف النيتو والالتحاق بالنهج الروسي، باعتباره أي النهج أوسع لفرنسا لتحقيق طموحاتها، كما أن تركيا مع قرب الخطر النووي من أراضيها وخذلان النيتو لها أمام روسيا في ليبيا وسوريا والبحر الأسود وشرق المتوسط إلزامها بالحياد المنحاز بين روسيا وأوكرانيا عن سياسة حلف النيتو، أما عن بريطانيا فإن توجه أمريكا لتصعيد ألمانيا واليابان من جديد بهدف الوقوف أمام روسيا في التقنية وأسلحة الجيل السادس وتعزيز القوة الاقتصادية بديلا للسلاح النووي والقوة اعسكرية يعيد المركز البريطاني في القوة للخلف، وهو ما لا تريده.
زيارة بينيت إلى روسيا مخترقا الحظر الجوي كان نتيجة قراءة متقدمة لصورة العصر الجديد الذي يتشكل، والذي يستوجب من الكيان الصهيوني إعادة التموضع في الاتجاه الروسي على حساب الأمريكي، كذات الحال مع تركيا التي تأخذ نفس الاتجاه، والأمر كذلك فإن الشرق الأوسط يحتمل أن يصبح روسياً أكثر منه أمريكياً، بل إن دول حليفة لأمريكا في المنطقة أصبحت اليوم أقرب لروسيا منها لأمريكا، كل هذا يصور حالة التغيّر التي يستدعيها الدخول في العصر الجديد، عصر قد نرى فيه روسيا والصين هما القوتان المهيمنتان على الشرق الأوسط عسكرية روسية، واقتصاد صيني، ما يجعل أمريكا تدعم القوى الرافضة لهذه الهيمنة بما في ذلك القوى الإسلامية (تحالف أمريكي إسلامي ضد الصين وروسيا احتمال يظهر في كثير من التحاليل السياسية)، وهذا يحتاج أو يلزم أمريكا في الخروج من هيمنة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية لتتغير الصورة التي ألفناها عقوداً من السنين، وتصبح فيه الولايات المتحدة الأمريكية على الأقل في حياد خفي بين فلسطين وإسرائيل، الأمر الذي ينتج عنه إعادة فلسطين بدلاً من إسرائيل، ويدعم هذا رؤية الصين لحل قضية فلسطين، كما جاء في الكتاب الأبيض الشيوعي الصيني، وضع جيوسياسي كهذا ربما يجعل تركيا السنّية وإيران الشيعية قطبين جاذبين لأتباعهما في المذهب والمنطق أن تدعم أمريكا إيران وتدعم الصين تركيا أي بعكس واقع الحال اليوم، إذ بخلاف ما يتوقع كثير من المحللين السياسيين من بناء تحالف إسلامي أمريكي ضد الصين في المنطقة فإن أمريكا لن تدعم إلا إسلاما ليبراليا يتبعه لبرلة نظام الحكم في إيران، وهذا وإن كان غاية أمريكية لكنه ربما يكون صعب التحقق، وحتى إن تحقق فعلاً فإن انبعاث إسلامية المنطقة لن يكون إلا مستقلاً بذاته، وإن استخدم الفرصة في اليد الأمريكية الممدودة لتقوية وتدعيم انبعاثه.
إن إحلال أمريكا لإيران محل الكيان الصهيوني في مواجهة العرب والمسلمين نظرياً يبدو منطقيا، بيد أن هذا لا يمكن أن يتم إلا في حال أصبح الكيان وبعض الدول العربية في الخانة الروسية والصينية مع دعم من استقلالية تركيا وإيران عن التبعية للقوى الأكبر، لخلق موضع صراع بينهما، سواء مذهبيا أو أي عنوان آخر، الأمر الذي يدفع المنطقة للتكتل المذهبي، فيكون هو الصراع البديل عن الصراع العربي الإسرائيلي، وقد يستبعد الكثيرون مثل هذه الآراء والأفكار بدعوى أن الكيان الصهيوني جزء من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن حقيقة الأمر أن هناك عوامل مختلفة كثيرة بينهما، والحديث فيه يدخلنا في متاهات الأديان والمعتقدات الأيديولوجية، وليس هذا مجاله، غير أنه يمكن ملاحظة الإعلام الأمريكي المملوك في غالبة لليهود، كيف يشيطن روسيا أكثر منه مع الصين، في حين أن الصين هي المنافس الحقيقي لأمريكا فحجم الاقتصاد الصيني يبلغ أكثر من 24 تريليونا، في حين يبلغ الاقتصاد الأمريكي 20 تريليونا، وفي القوة العسكرية فإن الصين تملك قدرة التدمير الكافية مع أمريكا، خلاف روسيا التي تملك القوة العسكرية، لكن لا تملك القوة الاقتصادية المنافسة، وكون اليهود أصحاب مال فإن استثماراتهم تنتقل من أمريكا إلى الصين، بل وحتى تقنية التصنيع العسكري الأمريكي تنتقل من إسرائيل إلى الصين، وهذه وتلك تعطي مؤشرات لانفصال المصالح بالنسبة لإسرائيل مع أمريكا أو على الأقل هي في هذا الاتجاه، ولأن تغير العصور لا يظهر فجأة إلا بعد أن يؤسس متغيراته ببطء لتتراكم الأحداث حتى تصل منتهاها فيتفاجأ البعض بما لم يكونوا يعتقدون أو يتخيلون يمكن القول إن إحدى نتائج نهاية سياسة الاحتواء هو عودة تصحيح التاريخ الذي انطلق منه الرئيس بوتين، والحق أن روسيا وهي تدخل أوكرانيا إنما تدافع عن أمنها القومي من الخطر الأمريكي الذي اقترب من حدودها إلى درجة الالتصاق ونتذكر أزمة صواريخ كوبا، وكيف كادت تؤدي إلى حرب عالمية، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية لم يمر عقد من الزمن لم تهاجم فيه دول، وتحتل دول، وتدمر دول، وبالتالي كلاهما عدو للدول المستقلة، في حين تظهر قوة اقتصادية جديدة ترفع يدها وهيمنتها عن سياسات وأيديولوجيات الدول مقابل الهيمنة الاقتصادية، ولكن وبمنطق الأشياء حين تنفرد أي قوة بحكم العالم، فإنها تبدأ في تشكيل نظامه وأنظمته لتصبح تابعة لها، هه هي سلطة القوة في نهاية الأمر.