عبدالرحمن السليمان
تتخذ تجربة الفنان فيصل الخديدي مسارها وفق احاطة معرفية وسعي إلى البحث الذي قد تنبني عليه تحولات واكتشافات محسوبة وأحيانا يلتقطها في معترك اشتغالاته المتباعدة او المتواصلة. مسار الفنان ومنطلقاته الفنية تتحرك ضمن مشهد ثقافي واسع في مدينته الطائف على الخصوص، بحضور وتأثير تجارب فنية تشكيلية ومسرحية وموسيقية عريقة بجانب المشهد الأدبي الذي يعتليه عدد من الشعراء والقاصين والروائيين والنقاد. المشهد الفني والثقافي عامة لهذه المدينة ينطلق وفق مسار تحديثي عرفناه قريبا في اشعار محمد الثبيتي ثم في مسرح تجريبي اعتلى المشهد ممثلا المملكة في أكثر من مناسبة عربية، وحضور فني تشكيلي (بصري) مبكر، كما كانت الاصالة الموسيقية التي بعثتها الحان او أصوات عدد من المبدعين.
تنطلق التجربة الجديدة للفنان فيصل الخديدي وفق رؤية إنسانية يشرح علاقاتها بالنفس او بالشخصية وفق تداعيات المشاعر والاحاسيس ووفق توصيف حالات وعلاقات البشر بأنفسهم او بمحيطهم وعوالمهم القريبة او البعيدة، فالإنسان هو من يبعث شفاف روحه عبر تصالحه وعلاقاته الروحية مع من حوله، والمادة ليست سوى تمثيلا للفكرة التي أرادها وسعى إلى تحقيقها وفق اختباراته واشتغالاته على خامات محددة لها أبعادها وإيحاءاتها بالنسبة له على الخصوص.
تنطلق هذه التجربة الجديدة من اشتغالات تجريبية سابقة وهو الذي قدم نموذجا مختلفا في توظيف الخامة والمواد المستهلكة التي اشتغل على توليفها لتحقيق نتيجته الفنية خاصة عندما عمل على تجميد الحدث (الصورة) وفق تقنياته الخاصة كانت خاماته متعددة لكنها ارتكزت على فكرة الثبات. المسار الجديد قد يرتبط بمعطيات وإيحاءات الخامة لكنه اختلف في معالجاتها كان (الريزين) اشتغاله الاثيري في المرحلة السابقة عندما كون عمله الفني وفق مفهوم الاندماج بين الأدبي المتمثل في تقديره لمسيرة (سيد البيد )ابن مدينته، او سعيه إلى تقنين الاشتغال بما يعمق تلك العلاقة التي نسجت نتيجته الفنية المختلفة، والتي كانت الخامة الجديدة بمثابة الإشعاع الذي أراد تمثيله او الإيحاء من خلاله.
لم تزل التجربة الجديدة تتداعى في سياق اهتماماته الاثيرية بالاشتغال على الخامة، وهي خامة يلتقطها من الشارع او من مبنى قديم وربما يسعى الى تشكيلها لتتوافق ورؤيته الجديدة وتحقيق فكرته الآنّية، فأكثر الخامات اشتغالا هي الأخشاب والتي تبدي في هيئتها او توحي في بعضها بالواح الكتاتيب، كما ويسعى الى الإيحاء بفعل زمني (مهذّب) لتتلاءم وكتاباته التي يمهرها بقواعد الخط العربي او قريبا من ذلك، موظفا الذهبي للايحاء بالقيمة والمعنى، وإحساسه بعلاقات الحروف والكتابة والاشتغال على المساحة التي أرادها تشكيلا وإيحاء بزمن تعمق من المعنى والدلالة. هو يبني عمله مكتفيا بالخامة بين طبيعتها والاشتغال على تهيئتها لتحقيق انشاءاته الفنية وتأكيد فكرته، والكتابة وان لم تبعث معنى مباشرا إلا أنها تمنح القطعة حيوية وتمازجاً بين الطبيعي وقوانين الكتابة. تتنوع الخامات وتنشأ بما تقتضيه مراجعة الفنان للفكرة، فهو يحدد رؤيته الفنية بين علاقات إنسانية من جانب، وعلاقة ذاتية بين حالات يؤكدها في منشور معرضه، بين تصالح الإنسان ونفسه واثر ذلك على علاقته بالآخرين وبالمحيط والمجتمع، وعموم البشرية. هو هنا يترك أثرا ماديا ينبني على المواد والخامات التي يصنعها او يأتي بها على طبيعتها مثلما يستعير مصنوعاته للمساحات المستطيلة التي تشي بباب او حائط يبعث شيئا من الضوء الذي يتمثل في إشعاع داخلي ترسمه الحروف المكتوبة والتي عالجها بما يحقق انبعاث ضوء جلي ونافذ على غرار النفس التي تترك اثرها على الاخرين، هي النفس التي نقول بنقائها وصفائها.
هنا رؤية اكثر من إسقاط معنى. رؤية يستعير لها أدواته الخاصة مع كل البساطة التي أرادها في اشتغالاته عليها او تشكيله لها، يجلبها من امكنته او يصنعها وفق ما تتمثل له معطياتها. الاكريلك الشفاف والاخشاب والواح وقطع من سيقان الأشجار كما كان الريزين في أعماله الاسبق، وإذا كانت اشتغالاته السابقة تجميد زمن، فانه هنا يحرك إشعاع الزمن ويطلقه. الاضاءات التي تمررها زجاجاته النافذة او خاماته المنتقاة تبقى مبعث اشعاع، ومنفذا تعبيريا لتعميق العلاقة الإنسانية؛ لتمنحنا الإحساس بالمشاعر التي أراد ان نبعثها نقية صافية كإشعاع نافذ من زجاج القلب. قلب يحمل الحب ويدعو له كما هي دعوته الإنسانية للسلام والنقاء والتصالح مع النفس أولا، لتصالح أوسع وأشمل مع المحيط والعالم.
** **
- فنان وناقد