د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** كانوا ملءَ «فم الدنيا» ثم غيّبهم المرضُ أو الوهنُ أو الموتُ فعشيَ ذكرهم، ونُسيَ قدرُهم أو دورُهم كأنْ لم يمرّوا، وفي حالتهم، وهي تعمُّ الجميع، موعظةٌ لمن استقى أهميته من خارجه، أو لمن توهمَ أن للواجهة الإعلاميةِ والاجتماعيةِ ذاكرةً عذراءَ، ومع متغيراتِ التقنيةِ والوسائط الرقمية امتدَّ النسيانُ حتى لمن هم صحيحو البدنِ والذهنِ حين أُقفلت ملفاتهم مبكرًا؛ فالزمنُ لم يعد لهم، والناسُ لا يعبؤون بهم، ومن بقيَ في انتظار الغياب فلأنه سار مع شروط السائد متنازلًا بإرادته عن مكانه الذي شغله، أو مكانته التي ارتقاها.
** ارتبط – قبل عشرين عامًا أو قريبٍ منها - بأساتذةٍ كبار القدر والعمر، وجمعته بهم لقاءاتٌ دوريةٌ جاء أولُها بفضل الأستاذ الدكتور عبدالكريم بن محمد الأسعد رحمه الله، وهو صاحبُ الأجزاء الخمسة في إعراب القرآن الكريم ومؤلفاتٍ في البلاغة والسير، وكانت المجموعة تلتقي عنده ضحى الخميس مرةً كل شهر تقريبًا، ونلتقي أسبوعيًا مغرب الثلاثاء ثم السبت من كل أسبوع؛ فانتظم معهم ضمن جدولٍ لطيفٍ يسيرُ وفق المواقع الجغرافية مبتدئين بمن يسكن شرق الرياض ومختتمين بمن يقع منزله غربًا، ثم تناقصوا بوفاة الأساتذة: عبدالكريم الأسعد، وصالح القرعاوي، وعبدالله العثيمين، وإبراهيم المصيريعي، وعبدالله المحيميد، وعبدالرحمن الشبيلي «السفير»، وعبدالله الزامل، وعبدالرحمن القاضي، رحمهم الله.
** للكبار قيمةٌ لا تُبارى يدركُها بوعيٍ من يقتربُ منهم، تتبعُه حرقةٌ عندما يتوارون عنه، وفي أحد المجالس الصباحيةِ التي عرفها فألفها ويرتادُها وقتَ زيارة مدينته حتى حفظ مقاعدَ أربابها، وهي جلسة الأستاذ حمّاد الشبل، رحل أقطابُها، ومنهم: الوالد والعم علي الحبيب، والشعراء: محمد الشبل وعبدالرحمن المنير وحسين الفايز، والأستاذان صالح الكريديس وحمد الغشام وسواهما رحمهم الله، وفي جلسة الأستاذ إبراهيم بن عبدالله الموسى الليلية التي تمتد من بعد صلاة المغرب رحل كثيرون يصعب حصرهم، بل لم يبقَ من المجموعة التي تجاوز عمرُ تجاورِهم ستة عقود إلا عددُ أصابع يدٍ واحدة، فكأنَّ المغادرين – غفر الله لهم - لم يعبروا مسافاتِ الحياة والعطاء، أو كأننا معهم كما قال متمم بن نويرة:
وكنا كندماني جذيمةَ حقبةً
من الدهرِ حتى قيلَ لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكًا
لطول اجتماعٍ لم نبت ليلة معا..
** ليس أمضَّ من وجعِ مقاعدَ اختلف مقتعدُوها، وحكاياتٍ غاب راووها، وابتساماتٍ بردت فوق الشفاه الظمأى، وأحلامٍ وُئدتْ، ومشاعرَ ذوتْ، ومتونٍ صارت هوامش، وهوامشَ خرجت من خطوط التاريخ؛ فكيف نستعيدُهم؟ أوَ ما آن للتأريخ الشفهيِّ أن يرصدَ مساراتِ الناس الطيبين العاديين الذين لم تظهرْ صورُهم ولم يُحتفلْ بذكرهم، وإلى متى ونحن نزيد اللامعَ تلميعًا، ونمرُّ بالأرصفة فلا نأبهُ للمنتظرين عليها؟
** يكادُ يجزمُ أن أكثر من ثمانين في المئة ممن عرفهم في صباه قد ارتحلوا إلى دارٍ خيرٍ؛ فهل قدَرُ الحياة التي تلد أن تئد، وللأحياء الذين عمروها أن يهجروها، ولشهود المراحل أن يصمتوا؟ وهي أسئلة لا تنتظر إجابات، بل تستدعي تأملات؛ فاللهم رحمتك إذا صرنا إلى حيث صاروا.
** الحياةُ هي الأحياء.