عبده الأسمري
يجول في خاطري وأنا أتنقل بين اتجاهات التلقي من وسائل اتصال ومجالات تواصل وما أراه في الفضاء المفتوح وما يأتي تحت يدي من معارف متاحة وما يلتقطه بصري من ثقافة جائلة.. سؤال رئيسي.. ما هو مستوى «المتعة» الفكرية النابعة من تلك المصادر وما الذي يوازي ما أتمناه لي ولغيري من الماكثين في «دوائر» التعامل مع هذه المعطيات؟
اتجهت إلى قنوات سياسية فرأيت «التدمير» عنواناً بائساً يشوه وجه «السلام» البشري.. انتقلت نحو الدراما فوجدتها تلتحف عباءة من «السخرية» وحينما تعمقت في الحوارات الفضائية فوجئت بأن «الضيوف» يكررون أنفسهم وكأننا أمام استنساخ «بائس» قوامه الوساطة ومقامه «البلادة»!!
زرت إحدى المكتبات الشهيرة قبل أيام فصدمت بأن الأركان الأمامية الواقعة في صدر المكان تتحيز للمؤلفين الغرب في مجلدات كبرى مترجمة كلها توجه «النصح» للبشر عن كيفية الحياة وآلية التعايش وعن القواعد الذهبية والماسية في العيش الآمن في اتجاه عكسي يخالف واقع المؤلفين وشعوبهم الفاقدة للسكينة والطمأنينة فيما وضع إنتاج علماء المسلمين والأدباء العرب في مساحة متوسطة لا يراها إلا العابرون بالصدفة..
أتابع مراكز التدريب ومنصات التعلم وجمعيات المعرفة وحتى جامعات الوطن فأجدها تتبارى لاستضافة أشخاص بعضهم أقرب للنكرة وتوصفهم بالألقاب وتوسمهم بالإعجاب في موضوعات «رتيبة» و»مملة» و»مخجلة» لتجد أن ثقافة الضيف في الشرق ونتيجة الموضوع في أقصى الغرب وإن أمعنت في المحتوى شاهدت كمية النسخ واللصق في ندوات وأمسيات كلها عبارة عن تجمعات للإلقاء والتصوير والكل وسط المحفل إعلامي وخبير وسفير ومبدع وريادي.. وإن توغلت في الأسئلة المطروحة لوجدتها مسبقة الطرح.. وفي النهاية يتوارد إلى أذهاننا أننا أمام «مشهد» سينمائي أو «مقطع» درامي محبوك سعياً لتمرير الوقت فقط وإظهار «الدور» من بوابات «الوهم»!!
ووسط كل هذا الزخم «المتزايد» من الغرابة والدهشة والعشوائية فإن ثقافتنا تحتاج إلى أسوار محصنة أمام هذا الزحف «المخجل» من ثقافات دخيلة يخيل فيها إلى «الساذجين» أن الارتباط بها «حضارة» وأن الترابط معها «تقدم» فنراهم قادمين إلى «الانفتاح» بهرولة تنبئ بالسقوط والانكسار!!
الثقافة أن يفهم الإنسان أكثر وأن يتقيد بمنطلقات تضمن له «السمعة» الزاهية بالتأثير والأثر وأن يكون له الهوية التي تجعله «متبعاً» لا «تابعاً» بعيداً عن «التبعية» المضللة التي تلغي «الكيان» وتجعل «المنساقين» خلف الشهرة «المؤدلجة» والانبهار «المؤقت» ضحايا «مؤكدين» في دوائر «الهدم» ومصائر «الندم».
رغم مرور قرون على رحيل بعض العباقرة من الأدباء والفلاسفة والمثقفين لا يزال صدى «أقوالهم» ومدى «عباراتهم» تعبر الآفاق وتجتاز السنين مقيمة كالضياء أمام «بصر» الباحثين عن المعرفة واللاهثين وراء الثقافة حيث عطرت سيرتهم أجواء «الإبداع» وتسطرت مسيرتهم في أصداء «الإمتاع»..
السمعة الثقافية «عبير» ينثر «نفائس» المتعة الفكرية وأثير يشيع «أنفاس» اللذة المعرفية رغماً عن تباعد المسافات لتأتي كاللحن الشجي على بوابات «الاستذكار»..
تتأثر السمعة الثقافية بأي «تفاهة» تسيء للذوق الأدبي وتؤثر في «نسيج» الإرث الثقافي الذي يمثل للبشر دهرين من النماء أحدهما للثبات والآخر للتحول لذا فإن للثقافة «حصانة» معرفية تقتضي نصب «أسوار» الدفاع وتأصيل «حواجز» الردع حفاظاً على «الأصالة» المعرفية التي كانت وستظل مؤشراً أول لقياس التطور بين المجتمعات..
في ظل هذه «الفوضى» البائسة من «سخافات» الدخلاء على «ساحات» الثقافة البيضاء يجب أن نصادر من محيطنا «المعرفي» كل محتويات «السفه» لنحافظ على «المتون» الثرية بالقيم وعلينا أن نستعين بمقومات «الأصول» الثابتة ومقامات «الفصول» الراسية حتى نقاوم موجات الخذلان للنأي عن كل منحدر يحتضن الجهلاء لأنه مكانهم «الطبيعي» ومرتعهم «الواقعي»
يحتاج المجتمع إلى جرعات من «المتعة» الفكرية التي تعيد إلى «التائهين» في «مسارب» التضليل ذواتهم «المتمردة» بفعل ثقافات مستوردة مخجلة تقترب من حد «الجنون» في المسلك و»المرض» في السلوك.. ولا بد من الحفاظ على «السمعة» الثقافية التي بنيت على زوايا قائمة من «السواء» وأقيمت على أرضية راسية من الانتماء.