عبدالوهاب الفايز
لم نتوقع هذا الانتقال السريع من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة الحقيقية في أوكرانيا..
تفاجأ العالم بهذا التطور رغم أن المراقبين للسلوك الأمريكي منذ عشر سنوات لم تدركهم المفاجأة، فأمريكا تبنت استفزاز روسيا عبر السعي لضم المزيد من الدول لحلف الناتو. لذا المواجهة كانت متوقعة، فالمراقب الحذق كان يرى تحت الرماد وميض جمر.. والشر مبدؤُهُ كلام وهنا نتذكر نعمة الأمن والاستقرار.. وأهمية بناء الجبهة الداخلية.
قبل أسابيع كنا نرى الأوروبيين يتطلعون إلى الاستقرار والسلام واستكمال الوحدة الاقتصادية، ولكن فجأة قامت الحرب المهددة للاستقرار، وتدفق اللاجئون، واستعاد العالم صور السنوات المريرة للحرب العالمية الثانية التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسين مليون إنسان. كانت الأوضاع العالمية في عام 1900، بالذات أوروبا، في حالة سلام وازدهار اقتصادي ولكنه لم يدم، فبعد خمسة عشر عامًا قامت الحرب العالمية الأولى، وتسببت في انهيار الإمبراطوريات النمساوية والهنغارية والروسية والألمانية والعثمانية، وبرز نجم الإمبراطورية الأمريكية، وبدا تراجع بريطانيا وفرنسا.
وهكذا هي سنة الله، لا سلام يدوم ولا حروب تدوم. والذي نراه الآن يعكس هذه الحكمة الإلهية.. فالاتجاه الآن يتسارع إلى إحياء بنية جديدة للقوة في النظام العالمي تقوم على عالمين جديدين هما: الشرق والغرب، أي العودة إلى حالة الفرز الجغرافي والثقافي القوي في عز الحرب الباردة الأولى. وهذا يعيدنا إلى مقولة الشاعر والقاص والكاتب البريطاني روديارد كبلنغ: الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدا. هذا الحسم الأيديولوجي يبدو أنه يتجدد ليدشن حقبة واقعية في عالمنا القادم، حقبة تدفع بها سياسات ومواقف تيار ليبرالي متطرف في أمريكا.
الأخطر على العالم أن هذه الاندفاعة الإستراتيجية الأمريكية تتزامن مع تراجعها كقوة عظمى. هذا التراجع يكاد يتفق علية أبرز مفكريها ومنظريها الإستراتيجيين، وتسنده جملة من الحقائق الواقعية من اقتصادها ومن أوضاعها السياسية الداخلية وحدة الاستقطاب في مكون الأمة الأمريكية. ويتصدر مشاكلها الكبرى ديونها التي وصلت ثلاثين تريليون دولار. ويقلقها بروز الصين وتحدي روسيا لمصالحها.
ومصدر الخطر يعود لكون القوى العظمى عادة لا تستسلم بسهولة لتراجعها وتدخل حالة غطرسة القوة، وتنزع إلى تبني مواقف خطيرة ومدمرة، ونرى ذلك في حرص أمريكا على إشعال الحرب في أوكرانيا، ومواصلة تحدي الصين وتهديدها بالعقوبات الاقتصادية، وأيضا مواصلة ابتزاز الأصدقاء والحلفاء.
هذا السلوك هو المغذي والمشجع لانقسام العالم بين كتلتين.. شرقية وغربية.
إذا نظرنا إلى خريطة الجغرافيا السياسية المعاصرة سوف نرى الكتلة الشرقية محورها الصين والهند، ثم الجزء الكبير من العالم العربي والإسلامي، ثم روسيا والجمهوريات التي تقع في فضائها الثقافي والحيوي.
فروسيا التي تقع في المنطقة الأوراسية خطابها القومي يعيدها لجذورها الأقوى في الشرق، أي قبل أن يأخذها القيصر بطرس الأكبر إلى ثقافة جديدة للدولة متطلعا إلى تغيير أذواق الروس وتعريفهم بالتراث الثقافي الأوروبي. كان هدفه آنذاك جعل روسيا دولة أوروبية سياسيا وثقافيا. لذا نقل العاصمة من موسكو إلى سان بطرسبيرغ القريبة من الغرب الأوروبي.
أيضا لا ننسى أن التعاطف الإستراتيجي الهندي العميق تجاه روسيا متجذر في تراث الهند حتى استقلالها. الشعور الشعبي الهندي القوي المعادي للغرب رأيناه خلال الحرب الباردة يتحول إلى معاداة لأمريكا، وكانت الهند رغم دورها في حركة عدم الانحياز أقرب إلى الاتحاد السوفياتي، وحاليا تجد روسيا دعمًا كبيرًا من النخبة السياسية الهندية والتي، رغم انقساماتها حول القضايا الكبرى، لا تخفي موقفها المتعاطف مع الموقف الروسي بشكل لافت، وكتاب الرأي في الصحف الكبرى يجدون المبرر للغزو الروسي من سابقة احتلال أمريكا للعراق. كذلك الهند ترتبط مع روسيا بعلاقات عسكرية قديمة ويقدر المحللون أن ما يصل إلى 85 في المائة من المعدات العسكرية للبلاد من أصل روسي أو سوفيتي.
والهند تعتبر المرجِّح القوي لميزان القوى في هذا النظام الدولي الجديد، فالروح الهندية شرقية بدون شك، والشعب الهندي عاني من الاستعمار الأوروبي لأكثر من أربعة قرون، وبريطانيا حولت الهند إلى حديقة خلفية لإنتاج المواد الأولية للصناعة والتجارة البريطانية، وكان عائد الثروات في الهند يمول نصف ميزانية الإمبراطورية البريطانية. وحتى خلاف الهند القوي مع الصين والباكستان قد يتراجع ويتم احتواؤه إذا تفاقمت المواجهة بين الشرق والغرب.
هذه الكتلة السكانية الكبرى قد تتشكل جغرافيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا إذا تصاعدت بقوة رغبة الهيمنة الليبرالية الغربية، وحماية قيم العالم الديمقراطي الحر! إعلان المواجهة الغربية للانتصار لقيم الديمقراطية والحرية، وإعلان الرغبة القوية للهندسة السياسية والاجتماعية للشعوب، وفرز الحكومات إلى ديمقراطيات وديكتاتوريات سوف يحيي (النزعات الوطنية) لدى الشعوب في الكتلة الشرقية التي سوف ترى التدخل الغربي لفرض الهيمنة الليبرالية، تهديد لوجودها. وهذا أيضا سوف يجدد روح العداء والحروب، والأخطر هو بروز الهويات الفرعية وانطلاق القوميات من جديد.
الأمريكيون والأوروبيون لن يجدوا مشكلة في تجدد الحروب، فهم أكثر من قاد الحروب في العالم منذ الدولة الرومانية، وحتى وقتنا الحالي. جورج فريمان في كتابه (الأعوام المائة القادمة.. استشراف للقرن الحادي والعشرين) الذي صدر قبل عشر سنوات يرى أن أمريكا لا تحتاج إلى (الانتصار في الحروب، ما تحتاجه بكل بساطة هو إغراق الآخرين في الفوضى بحيث لا يمكن لهم إعادة إنتاج ما يكفي من قوة قد تشكل تحديا لها). منذ مطلع القرن الحالي رأينا الحروب التي أشعلتها والتي تشعلها الآن، وهذا هو الأثر الخطير على العالم عندما تتفرد أمريكا بالقوة.