رمضان جريدي العنزي
على الرصيف المتهالك، رجل مسن رمت الحياة كامل ثقلها على قلبه وروحه، وحيد لم يبقَ له في حياته سوى عكازة عتيقة، وبقايا عافية، انحنى ظهره حتى صار كأنه قوس، نحيل كأنه عود قصب، في روحه صحراء قاحلة، ذاكرته أصبحت كسولة ومشوشة، قال لي وهو يحدثني بصعوبة بالغة، من على رصيف قريته النائية المتناثرة فوق التلال كأنها حبات لؤلؤ، كنت في شبابي أبتلع العاصفة قبل وقوعها، كنت واضحاً ولم أكن مراوغاً، كنت أضرب الطرق والفجاج بلا كلل ولا ملل، أعمل من الصباح لحد المساء، أحرث الأرض وأزينها بالسنابل، أدغدغ أحلامي بمشط أنيق، صوب الحلم أركض، أقاوم البرد والعطش، شعلة من دم كنت، أحترق لأجعل من عائلتي فريدة، يتحرش بي القنوط لكنني لا أبالي، أرفض فصول الأسى، وأركل التقهقر، الطيور التي تحلق فوق السنابل كنت أهزج معها كونها تمنحني القوة والفرح، صادقت طويلاً شمس الضحى والأصيل، الفراشات عندي قصائد ملونة، وموقد الجمر في الشتاء له حالة خاصة، وعبق القهوة السوداء لها طعم فريد.
وهاأنذا من عشرين عاماً تفعل بي الوحدة والمرض الأفاعيل، الحياة عندي صارت صباراً وشوكاً، يتسلل إلى روحي الحزن ويستكين في القلب وفي الحنايا، كأني محارب أراد أن يستريح، لكنها استراحة مغايرة، عندي قلق وتوتر، ويسكنني النحيب، كأن كل شيء يكتبني منذ مليون عام، وأنا الذي كنت أسافر في باطن الأرض، ومع عروق الغمام، أنا من أنا؟ رجل في التسعين من عمري، ازدرتني الحياة، ولي فيها انحدارات وانكسارات، واشتهاء الحزن فيها أكثر من اشتهاء الفرح، صرت شمعة بلا ضوء، وأنا الذي كنت الضوء كله والبريق.
بعد أن ماتت عائلتي كلها في حادثة حريق، تبخرت روحي، واعتل قلبي، ووهنت رئتاي، وما عدت قادراً على الاحتمال، وأنا الذي كنت أخف من الأقحوان الصباحي، وأصفى من الماء.لقد مات عندي الكلام، يتطاير في الجو مثل زهور مجففة، أعاود ترتيب الانسجام لكنني أعجز أن أطول الغمام، وما عدت أنام، قدري هكذا في الحياة، أن تموت عناويني الكبار وأحلامي والأمنيات، ويموت زرعي الجميل.
أنا الآن صرت مثل سهم رجع للخلف، أو مثل قافية لا تعرف المعنى ولا حلو الكلام، نورس أعمى صرت، والضجر مسامير تدق في قلبي، وعلى حواف الجسد، أحمل حزني وهمي، وأدور على عكازتي كأني نسر كسيح، لا شيء عندي، عندي شيء واحد فقط هو القلق، أعرف أنني مفرط في الحزن، مفرط في التأمل، والوحدة والحنين، كنبات الليل مفرط في التسلق على الشرفات العالية، مزاجي متقلب، كحفيف الرياح، وحدي مثل مركب مهجور في شاطئ بعيد، ما عدت استمتع بالنعناع، ولا بعابرات الغيوم، متعب من أول ولهي لآخر أنفاسي، وروحي تجهش في الفلوات البعيدة، حياتي صارت معطوبة، ذابلة كحبات البرد الصغير، أعاني من ضربات الحياة المتتالية، كأنها ضربات شمس حارقة مؤلمة وموجعة، أو كأنها ضربة سوط غليظ.