قال أنطون سعادة: «الصداقة عزاء الحياة». ما الذي قصده بهذه العبارة الجميلة؟ وهل الحياة تحتاج لعزاء؟ .. ما قصده أنطون سعادة هو أن الحياة هي مجموعة «صراعات».. الصراع مع الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان؛ وهذا عمل يحتاج الاستعانة بالآخر؛ فهو عمل جماعي وليس فردياً؛ والصراع بين الغني والفقير؛ وهذا يحتاج أخلاقا وأعرافا وقيما اجتماعية ودينية لتحقيق ما يسمى «العدالة الاجتماعية» ..إلخ. أما آخر الصراعات وأوسعها وأشدها عنفاً هو الصراع بين الظالم والمظلوم؛ فعدم توفر الفرصة لدى أي فرد؛ وفي أي بقعة من بقاع العالم؛ للعيش الكريم هو ظلم؛ أو للتعليم هو ظلم؛ أو الحصول على الحقيقة هو ظلم؛ وهضم الحقوق ظلم؛ والاستعمار ظلم..إلخ.
في خضم تلك الصراعات لا يستطيع أي فرد أن يحقق طموحاته إلا بالشعور بالمساندة من الآخرين. وهذه المساندة قد تكون زواجا؛ فالزواج هو صحبة بين الزوج والزوجة لتكوين عائلة؛ ثم خوض غمار الصراعات الحياتية لأجل تلك العائلة. وقد تكون المساندة على شكل مواساة للفرد من الآخرين عندما يتعرض لفقدان ما.. الخ. ولكن أرقى أنواع المساندة هي الصداقة! فالصديق لا ينتظر منك مقابلا عندما يساندك؛ وانت ستتخطى صعوبات الحياة حتى لو كانت المساندة معنوية؛ المهم أن تشعر أنك لست وحيداً في المواجهة؛ ولذلك قيل «الصديق وقت الضيق»!.
التقيت بأحدهم لأول مرة؛ ولمست به مقدارا من الأنانية والفوضوية فيه؛ ثم فاجأني بالقول: أريد أن أتخذك صديقاً؛ فرفضت ذلك! فسألني لماذا ترفض؟... لم أستطع القول أنني لمست بك خصالاً لا أطيقها؛ وقلت: نحن نلتقي لأول مرة؛ واتخاذ الصديق يحتاج إلى وقت؛ فأنا لا أعرفك جيداً؛ ثم إن الصداقة ليست بالطلب إنما بالسلوك. فقال: ولكنك إنسان مريح وطيب وأنا لن أتركك تفلت مني!.
-غضبت أشد الغضب لهذا الطرح؛ فكأنما أنا «صيدة» ثمينة من أجل تحقيق مصلحة ما؛ أي نسف معنى الصداقة؛ وحوله إلى استغلال! عندها حسمت الأمر بقوة وقلت له: الصداقة بمفهومي أنا؛ ومفهوم المجتمع؛ ومفهوم البشر جميعاً؛ هي ليست إرادة طرف واحد؛ إنما طرفين أو أكثر؛ وإذا كانت لديك رغبة لمصادقتي؛ فهذا لا يعطيك الحق بأن تفرض علي صداقتك فرضاً؛ فأنا أمتلك حق الاختيار؛ ولا أسمح لأي أحد سلب هذا الحق؛ فصمت ولم يتطرق للموضوع مرة أخرى.
الهدف من رواية هذه القصة هو التأكيد على أن الصداقة «عطاء»، وليست وسيلة لتحقيق مكسب!. وهنا يكون معنى قول «سعادة» أن الصداقة تمنحك الأمان والشعور بالقوة لخوض الصراعات المريرة؛ وأنك لست وحيداً؛ ولذلك هي «عزاء». أي أن الصداقة ليست ذات معنى مطلق وفارغ، إنما هي قيمة أخلاقية والتزام مبدئي راق غير مرتبط بأهواء آنية.
بيد أن من هو ظالم أو مساند للظلم؛ لا يجد وسيلة للتخفي خلف الحقيقة سوى إخراج المصطلح من مضمونه التاريخي والأخلاقي. فتجد من يريد اضعاف أو تدمير بلد ما؛ يشجع شرذمة منه لتقسيم البلد والانفصال؛ وبحجة واهية هي «حق الأمم في تقرير مصيرها»!.. عجباً .. وهل الانفصال عن الوطن الأم هو حق؟
مقولة «حق الأمم في تقرير مصيرها» أطلقها قائد الثورة البلشفية في 1917 بعد الإطاحة بالقيصرية الروسية؛ التي كانت تبسط سلطتها على بلدان عدّة؛ وبشرط واحد لا غير؛ وهو أن لا تتحالف تلك البلدان مع أعداء الثورة!. أما سلخ جزء من أي بلد كان؛ بحجة اختلاف الدين أو القومية أو الامتداد التاريخي؛ وخاصة إذا كانت تلك الدولة تتعرض لهجمة عدوانية شرسة؛ فهذا ليس تحقيقاً لحق؛ إنما هو خيانة محضة؛ واصطفاف سافر مع الأعداء.
** **
- د. عادل العلي