للتو انتهيت من قراءة السفر المفيد للكاتب د. سعد البازعي بعنوان: المكون اليهودي في الحضارة الغربية، وأود أن أسجل ما يلي من وحي هذه القراءة:
كثير من المؤلفين في شأن اليهود يسقطون مفاهيم الزمن الحديث من مفردات
«شعب وأمة» على التاريخ اليهودي. اليهود كانوا في أحسن الفروض قبيلة من جملة القبائل كُتب عليها التنقل في منطقة الهلال الخصيب. وزعموا أن إلاههم يهوه اختارهم من بين شعوب الأرض أن يكونوا شعبه. هم إذن الشعب المختار من قبل يهوه. غير أن هذه القبيلة دخلت في صراع مع البابليين والفرس، وكان ذاك هو تعامل الإمبراطوريات مع أي شكل من أشكال التمرد سواء أن جاء من قبيلة اليهود أو من غيرهم. هل كان العبرانيون بحكم تعاليم دينهم عصيين على التكيف مع أنظمة الحكم انطلاقًا من نظرتهم إلى أنفسهم كشعب الله المختار؟ ربما إنهم تميزوا بسلوك مجافٍ لسلوك باقي الجماعات التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها؟ (إطالة الشعر، أزياء خاصة، الانكفاء في أحياء أو مواقع منعزلة). ثم حلت الإمبراطورية الرومانية في حكم الشام، وهنا حصل تصادم بين هذه الإمبراطورية واليهود، ويلاحظ أن المؤرخين يسلطون الضوء على اليهود كما لو كانوا هم سكان المنطقة ذات الشأن.
ثم جاء احتكاكهم بالمسيحيين حين تآمروا على المسيح وافتروا عليه إلى درجة دفع الحكام أن يحكموا على السيد المسيح بالصلب.
وسجل التاريخ المسيحي هذه الفعلة على اليهود وظلت تكرر طوال القرون. وكان ذلك سببًا للتجاوز على يهود أوروبا بالسبي والنهب والإحراق. وزاد أوار هذا الحقد في أواخر القرن الحادي عشر - أوائل الثاني عشر - بادعاء الأوربيين ( الغوغاء) أن الذهاب لتحرير بيت المقدس مع ترك العدو اليهودي يسرح ويمرح في بلادهم أمر منافٍ لتعاليم المسيحية، فاندفعوا لنهب وسلب اليهود بل وقتلهم. السبب هنا الضغائن التي حقنت بها قلوب المسيحيين عبر الزمن. العداء ضد اليهود امتد واستشرى حتى جاء القرن الخامس عشر (1492) وما تلاه من القرون خاصة السادس عشر والسابع عشر من مقتل وحرق ونفي، وهو ما سمي بزمن inquisition (الملاحقة) في إسبانيا والبرتغال. واضطر كثير من اليهود إلى التنصر، والبعض تنصر وبقي مخلصًا لليهودية خفية. وهذا ما أدى إلى هجرة هؤلاء إلى أوروبا خاصة هولندا لما كانت تتمتع به من بوادر ليبرالية ممتزجةً بطموحات تجارية.
في القرن الثامن عشر ومع بزوغ التنوير جاء زمن الخلاص. جرت تسوية وضع اليهود بموجب مبادئ العدل والمساواة وبدأ اندماج اليهود في مجتماعاتهم الأوروبية. وهذه الفترة تعتبر ثاني فترة ازدهار للوجود البهودي، أما الفترة الأولى فكانت في شبه جزيرة إيبريا.
لكن اللاسامية أي كره اليهود لم يختف من صدور الأوربيين، خصوصًا أن اليهود عادوا إلى أساليب المكر التجاري والربوي والإباحي، وهو ما أعطى المعادين للسامية وعلى رأسهم النازيين في ألمانيا فرصة البدء بما سمي الحل النهائي Ultima ratio.
الخيط الثابت في هذا التاريخ هو ثبات الجماعة اليهودية على نخبيتها وتفردها واحتيازها على مقابض المال والمعرفة. دزرائيلى روائي إنجليزي من أصل بهودي هو الذي أغرى روتشيلد على إقراض الحكومة البريطانية لشراء أسهم إسماعيل الخديوى في شركة قناة السويس. وفايس مان أول رئيس للكيان الصهيوني ينسب له إقناع الإنجليز بمنح اليهود وعد بلفور مقابل الحصول على أسرار صنع مواد كيميائية يستفاد منها في خوض الحرب العالمية الأولى والثانية.
لنقل ما نقول: صفة شعب الله المختار مع تجارب العزل والكراهية أوجدت نمطًا تربويًا عند اليهود أن يرتفعوا إلى مستوى أفضل نخبة.
أنا لا أؤمن بوجود شعب يهودي على أساس عرقي، شأنهم في ذلك شأن كثير من الشعوب. إذن، فإن إنجازات هذه المجموعة قامت على عنصرين: تربية نخبوية، إيحاء وممارسة يغذيه على مر التاريخ تجارب مطاردة وغمط حقوق. وهذا هو وضع الأقليات في الغالب، النوعية مقابل الكم، وهو الشيء الذي يمكن استلهامه من هذه المراجعة. من مصادر القوة في التاريخ البشري تقدم ثلاثة في الأولوية: العنف، المال، والمعرفة. انظر إلى اليهود وتمعن كيف طوعوا هذه المصادر لمصلحتهم.
** **
- د. حسن البريكي