للدكتور مصطفى محمود مقولة جميلة تتعلّق بالنقد، يقول فيها: «هناك فرق بين النقد والحقد، وبين النصيحة والفضيحة، وبين التوجيه والوصاية...»؛ ومقولة أخرى للأستاذ نصر حامد أبو زيد يقول فيها: «الخوف من النقد والعجز عن مقارعته بالحجّة، دافعٌ لمحاولة إسكاته بأيّ طريقة»؛ وللكاتب الأمريكي الشهير «فرانك كلارك» مقولة رائعة في هذا السياق، وهي أنّ «النقد مثل المطر، ينبغي أن يكون يسيرًا بما يكفي ليغذّي نموّ الإنسان، دون أن يدمِّرَ جذوره»؛ أيضًا الكاتب المصري يوسف إدريس يقول: «النقد في السرّ مساومة»؛ وأخيرًا يقول الفيلسوف أرسطو: «النقد أمر نستطيع تفاديه بسهولة، بألّا نقول شيئًا، وألّا نفعل شيئًا، وأن نكون لا شيء»!
إذًا، النقد منطقةُ صراع تجمع الناقد والمستهدَف بالنقد، وكلاهما عنصر فاعل في نجاح هذا النقد أو فشله. وحتّى نفهم ما يحدث في هذه الساحة، ربّما علينا أوّلًا استعراض بعض الصور النمطيّة للنقد الأدبي، وابتعادها غالبًا عن الصورة المثاليّة التي نبحث عنها. من تلك الصور غير الجيّدة، نقدٌ يُعلي من شأن الناقد دون إيلاء النصّ الاهتمام الذي يستحقّه؛ يحدث ذلك بسبب إنفاق الناقد جهده في محاولة إطلاع المتلقّي على ثقافته الشخصيّة، ومطالعاته المتعدّدة، والمصطلحات النقديّة التي يحفظها وتتناثر في دراساته... وصورة أخرى نجدها في كتابات مقاليّة تُفرَد لها الصفحات في الملاحق الثقافيّة، وتتسابق الأندية الأدبيّة على جمعها ونشرها في كتب، بينما هي لا تقول شيئًا أكثر من سرد ملخّصات للأعمال الإبداعيّة؛ ونوع آخر من النقّاد يُحمِّل النصوص ما لا تحتمل، فيُبحر في معانٍ يربطها بالنصّ بدون وجود أيّة دلالات لفظيّة تقود إلى المعنى؛ أيضًا هذا النوع من النقد السيميائيّ لا قيمة له مهما كانت القيمة العلميّة للناقد، وهو ما بات يُعرف بالفوضى النقديّة والثرثرة الكتابيّة والكلاميّة التي تذهب بالنصوص خارج سياقها ومتنها؛ نوع آخر من النقد تتقنه شريحة كبيرة من النقّاد، ومنهم - للأسف - نقّاد كبار يحملون مؤهّلات عليا في هذا المجال، وهم أولئك الذين ينصبون أنفسهم - كما ذكر الدكتور مصطفى محمود - أوصياء على الثقافة والأدب، ويشعرون أنّ قيمتهم الحقيقيّة تكمن في التقليل من شأن الكُتّاب، فيذهبون في نقدهم باتّجاه امتهان النصوص، والاجتهاد في البحث عن مثالبها - إن كان الكُتّاب غير معروفين - والتغنّي ببعض النصوص المتَّفَق عليها لكُتّاب كبار...
لعلّ كلّ ما سبق هو السبب في ظهور وشيوع مقولة أنّ مَن لا يتقن الكتابة يحترف النقد؛ وهذا أيضًا نوع من النقد السيّئ الذي لن يُعلي من شأن الأدب، بل قد يكون سببًا في الحالة التي نعيشها اليوم من انعدام الثّقة بين الناقد والكاتب. وأخيرًا، هناك نوع من النقد يُعاب عليه صدقه، هؤلاء لا ينافقون مطلقًا، ولا يقولون إلّا حقًّا، فكلّ ما يكتبونه عن الأعمال التي ينتهون منها، إنّما يعبِّر عن مشاعرهم الصادقة تجاه العمل، ولكنهم - للأسف - يفتقرون إلى الأدوات النقديّة المُعينة التي تيسّر لهم النهوض بهذا الدور على وجهه الصحيح. أكثر ما يؤلم في كلّ هؤلاء على اختلافهم، تمكُّن بعضهم من اللغة، وإجادتهم الاستشهاد بالمنقولات، وظهور كتاباتهم بالشكل الرائع الذي قد يدفع كثيرين إلى الانسياق خلفهم دون وعي، وترديد ما يقولون، ورفض ما يرفضون، وقد يكون من هؤلاء - للأسف - بعض المتخصّصين الأكاديميّين، إذ إنّ الدراسة، مهما بلغت، لن تمنحنا ناقدًا بارعًا أو كاتبًا متمكّنًا إذا كان يفتقر إلى الموهبة. والمحزن أنّ هؤلاء هم مَن يشكّل وعيَ الأمّة الثقافيّة، إن قُدّر لأحدهم الوقوف على تحكيم جائزة من الجوائز، أو أَسندت إليه إحدى دور النشر اختيار موادّها.
في الواقع، إذا أردنا أن نستفيق من هذا كلّه ونخطوَ باتّجاه الصورة المثاليّة للنقد، علينا التعاطي معه على أنّه حالة إبداعيّة لا تقلُّ جمالًا عن الكتابة، وأنّ وجوده مكمِّلٌ للمشهد الثقافيّ، بل إنّ تغييبه ينعكس سلبًا على جودة النصوص وقيمة الكتّاب؛ ما يعني أنّه لا سبيل للنهوض بالحالة الكتابيّة من دون إيلاء قطبَيْها (الكاتب والناقد) الدرجةَ نفسها من الاهتمام؛ فلا ناقد بدون كاتب ولا كاتب بدون ناقد. لعلّ في ذلك ما يقلِّل كثيرًا من الاحتقان السائد بين الكاتب والناقد، ويجعلنا نرفض كلّيًّا مقولة أنّ الناقد ينقم على الكاتب لأنّه عاجز عن الكتابة مثله؛ فالناقد المبدع يمتلك قدراتٍ وأدواتٍ لا يمتلكها غيره، تجعله يتفوّق في النقد ويبدع، وينشغل به عن أيِّ أمرٍ آخر، حاله حال الكاتب الذي يمتلك ما يؤهّله للإبداع في مجاله، وقد يفشل إن اتّجه ناحية النقد، أي أنّ كلَيْهما مبدع في تخصّصه ولا مجال للتنافس بينهما.
الأمر الآخر المهمّ هو فهم الأسس النقديّة التي ينبغي أن يُبنى عليها النقد الإبداعي، مثل نظريّة موت المؤلّف، للناقد الفرنسي رولان بارت، التي تتردّد كثيرًا على الألسن، لكنّها لا تجد التطبيق الأمثل الذي شُرِّعت من أجله، والذي يتلخّص في النظر إلى النصوص الأدبيّة بمعزل عن كُتّابها، حتّى لا يتأثّر نقدنا سلبًا أو إيجابًا تبعًا لمعرفتنا بأصحابها أو محبّتنا وكرهنا لبعضهم، ما يعني تساوي النصوص أمامنا، وهو العدل النقدي الذي ينبغي أن ننطلقَ منه في نظرتنا إلى النصوص. كذلك اتّباعنا خطواتٍ محدّدةً في تقييم النصوص وكتابة الدراسات النقديّة عنها، وهي مراحل النقد المعروفة التي يمكن إجمالها في الملاحظة والتحليل والتفسير والتقييم. وهذه - كما يلاحَظ - خطوات تستلزم وظائف عقليّة عليا قد لا تكون متوفّرة في أحد الدارسين المتخصّصين أو القرّاء المتفانين، لذلك ينبغي على الناقد أن يختبرَ نفسه، ويكونَ صادقًا في اتّخاذ قراره بالاستمرار أو التنحّي إن وجد أنّه عاجزٌ عن النهوض بهذه المهامّ رغم تخصّصه.
ما يدفعنا لقول ذلك هو وقوفنا على التقييم غير الواقعيّ للعديد من الأعمال الأدبيّة؛ فإن افترضنا حُسن النوايا، نستطيع القول: إنّ الناقد لم يستطع بناء رأي مبدئيّ عن العمل في مرحلة الملاحظة التي تَعني قراءة العمل كاملًا وفهمه، قبل الانتقال إلى المرحلة التالية المعنيّة بتفكيك النصّ وتحليله، وتكوين صورة مبدئيّة عن اتّجاهاته وبنائه، والمدرسة التي يمكن نسبته إليها. وكما هو واضح، فإنّ النقد عملٌ مُضنٍ، يتطلّب قراءات متعدّدة ومتأنّية للنصوص، تخصُّ كلَّ مرحلةٍ من هذه المراحل، إذ لا يمكن الوصول إلى تفسير النصّ وتقييمه قبل المرور بكلّ هذه المراحل. ما يهمّنا هنا، هو أنّ النهوض بهذه المَهمّة يتطلّب شغفًا ومحبّةً، ولا يمكن القيام بها كتكليف عمل أو مجاملة؛ ولن نصلَ إلى الصورة المثاليّة إن لم يكن الناقد يشعر بقيمة عمله الإبداعيّ ويسعى إلى تجويده قدر استطاعته، ويستمتع بأدائه في كلّ وقت.
بقي أن نشيرَ إلى الذائقة، هذه الشمّاعة التي نُلقي عليها أخطاءنا، ونختبئ خلفها هربًا من النقد الجارح الذي يطالنا في حديثنا بشكل سلبيّ أو إيجابيّ عن بعض النصوص. فهل نحن بالفعل أسرى الذائقة، تتحكّم في نظرتنا إلى النصوص، وتهيمن على قراراتنا؟! بالطبع هذا الأمر غير صحيح، فالذائقة لا تولد معنا، وإنّما تتشكّل من خلال قراءاتنا المتعدّدة، واستيعابنا لما نقرأ، واتّباعنا المنهجيّة الصحيحة للقراءة. نهوضُنا بهذا الدور بصورته المثاليّة في مرحلةِ تَشَكُّل الذائقة، سيمنحنا القدرة على فرز الأعمال فرزًا حقيقيًّا من النظرة الأولى، وتصبح الذائقة عونًا لنا لا مِعْوَلَ هدم. هذا الوصف يشبه ما يصل إليه فقهاء اللغة عند تمكُّنهم من قواعدها، وتطبيقهم إيّاها بشكل متكرّر، فيصلون في مرحلة من المراحل إلى التحدُّث بالسليقة من دون الرجوع إلى القواعد، كحال العرب عندما كانوا يُتقنون اللغة من دون الحاجة إلى تدوين قواعدها، بل من دون الحاجة إلى تنقيط حروفها، فالناقد المبدع لا بدّ أن يصلَ، من خلال قراءاته النوعيّة، إلى هذه المرحلة المتقدّمة، فتصبح عينه مقياسًا لإصدار الحكم المبدئي.
إنّ الصورة النقديّة الرائعة التي نتأمّل انتشارها، ونرى فيها ما يردم الهوّة بين الكاتب والناقد، ويجعل كلًّا منهما يفخر بنتاجه ويباهي به من دون التقليل من شأن الآخر، تكمن في انشغال الناقد بالنصوص دون النظر إلى أيّ أمر خارجها، وجعلها تقوده للحديث عنها، باختيارها المدرسة النقدية التي تناسبها، لا أن يلويَ عنقها ويذهب بها في هذا الاتّجاه أو ذاك. كذلك الاعتماد على دلالاتها اللفظيّة الصريحة، للغوص في أعماقها، وعدم تجاوز إشاراتها السيميائيّة مطلقًا؛ مِن ذلك أيضًا، عدم افتتان الناقد بظاهر النصّ وتحميله ما لا يحتمل، أو الدخول إليه من باب كاتبه، فمعظم الكتّاب العالميّين لهم نصوص غير جيّدة، كما حدث مع يوسف إدريس في مجموعاته القصصيّة الأخيرة. لذلك، ينبغي على الناقد أن يكونَ حصيفًا، وقادرًا على سبر الأغوار، والأهمّ من ذلك كلّه، الابتعاد، في حال شَعَر أنّه رغم علمه ودراسته، لا يستطيع استنطاق النصوص، وفهم مغازيها الخفيّة، والوقوف على حالتها الإبداعيّة؛ أو أنّه لا يملك الوقت الكافي، والشغف الكبير الذي يجعله يشتغل كثيرًا على النصوص، قبل الحديث عنها. والأهمّ من ذلك كلّه، على الناقد أن يكونَ صيّادًا ماهرًا، يحمل سِنّارته ويذهب إلى البحر ليصطادَ بنفسه، من دون الاعتماد على السمك الذي يصطاده غيره ويقدّمه له، فبعضهم ينتقي ما يقدّمه ويخفي ما لا يريدك أن تراه، أو على الأقل لا يقيِّم السمك بالطريقة التي تتّبعها أنت؛ وأعتقد أنّ أجود الأسماك هي التي نصطادها طازجةً من بحرها...
يمكننا القول صراحة، إنّ الناقد المبدع يستمتع بممارساته النقديّة، ويسعى جاهدًا للوصول إلى النصوص الإبداعيّة، وعندما يجدها لا يفرِّط فيها، بل يتحدّث عنها حديث الأب المحبّ عن ابنه. بينما الناقد المزيّف ينتظر الإهداءات، ويتحدّث عنها تبعًا لحاجته لهذا الحديث. ولكن، كلّ ذلك لن يُجديَ نفعًا في حال لم يكن الكاتب متقبِّلًا للنقد، منصاعًا لتوجيهاته. هناك الكثير ممّا ينبغي على الكُتّاب النهوض به لإنجاح الساحة الثقافيّة، فجودة الناقد تحتاج إلى كاتب واعٍ يدرك أهمّيّة النقد، ويحسن التعامل معه، لذا لا يجب أن يقتصرَ حديثنا على النقّاد فقط، ونتجاهل الكُتّاب، بالرغم من أنّهم يكونون أحيانًا أحد أهمّ أسباب تهميش النقد وعدم الاستفادة منه، وذلك عندما يتعالون على الآراء النقديّة، ولا يقبلون منها إلّا ما يمجّد كتاباتهم ويُعلي من شأن أقلامهم؛ وهي الفكرة الواقعيّة التي حدّثنا عنها الكاتب الأمريكي الشهير «نورمان فنسنت بيل»، صاحب كتاب «قوّة التفكير الإيجابيّ»، حين قال: «معظم الناس يفضّلون أن يقتلَهم المدح، على أن يُنقذَهم القدح
** **
- حامد أحمد الشريف