د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في حياة صاحبكم معهدان يدينُ لهما بالفضل هما: معهد عنيزة العلمي حيث أجادَ تأسيسه في العلوم الشرعية والعربية التي لم يتخصص بها، ومعهدُ الإدارة العامة الذي كان ويظلُّ مدرسته العمليةَ الأهمّ، وثمة معهدٌ ثالثٌ لا يدينُ له بشيءٍ غير أن بلوغَه يستحقُ الرواية، وهو معهد اللغة الأميركية American Language Institute التابع لجامعة San Diego State University فقد كنا (معيدو المعهد المعينون على وظيفة مساعدي مدربين) مطالبين بالحصول على قبولٍ من إحدى الجامعات الأميركية، وهو أمرٌ معتادٌ حتى اليوم، ولضعف لغتنا حينها استعنّا بمن هم أكثرُ درايةً فراسلنا وعادت إلينا إجاباتُ الجامعات قبولًا واعتذارًا لنودعَها إدارةَ الابتعاث في المعهد المعنيةَ بتهيئة القرارات واعتمادها وما يتبعها من إجراءات.
** حصل صاحبكم على قبولين، وصدر قرار ابتعاثه إلى جامعة أوهايو – أثنز Athens-Ohio، ولأنها تجربته الأُولى في السفر الخارجي بجوازه الأولِ في حياته فلم يعنِ له الأمرُ أكثرَ من استقبال الغربة؛ فأميركا في نظره واحدة، ولا فرق بين شمالٍ وجنوبٍ وشرقٍ وغربٍ لولا أن أستاذه وصديقه علي بن عبدالله الهديَّان العائدَ حديثًا من «أثنز» لعدم ارتياحه بها ذهب - دون أن يُخبرَه - إلى مدير الابتعاث أستاذنا القدير سعد بن محمد البَنيان، وطلبَ التأكدَ من الملف ليقينه بوجود قبولٍ آخرَ، وبالفعل أطلعه على قبولِ «سان دييغو» فأخذه من لحظته إلى المدير العام للمعهد الدكتور محمد الطويل؛ فلا مقارنة بين البيئتين والولايتين والمدينتين، وتمنى عليه تغيير وجهة البعثة من أوهايو إلى كاليفورنيا فطلب التأكدَ من رأيِ صاحبكم، ثم صدر القرار باعتمادِ جامعة كاليفورنيا بدلًا من أوهايو.
** كان أبو محمد الهديَّان مملوءًا بالعتبِ حين ساءله: كيف تقبلُ مكانًا ولديك أفضلُ منه؟ ولم يزد الاعتذارُ على قول: «كله عند العرب صابون» فما أدراه عن بلدٍ يفصله عنها قارتان ومحيط وهو الذي لم يزرْ دولَ الخليج القريبة؟!، وأضاف: «أنت صديقي الأكبر والأمرُ لك من قبل ومن بعد»، كما شكر الإنسانَ الأستاذ أبا أنس البنيان لجميل عنايته، والإداريَّ الأبرزَ أبا غسَّان الطويل؛ فقد فكروا وقرروا من غير أن يعلمَ: ماذا ولماذا وأين وكيف.
** كذا يُورقُ الصفاءُ الجميل، وبذا يبرُّ الناسُ الصادقون، وتيقنَ - بعد استقراره في المغترب الأميركي - كم كان الفارقُ ضخمًا بين الوجهتين، وكيف كانت الوجهةُ المطلةُ على المحيط الهادئِ أجملَ وأكملَ فاستقرَّ بها وزوجتُه سنواتٍ مشرقةً وُلدتْ خلالها ابنتُه الكبرى (هتون)، وعبر هذا الموقف النبيلِ الأصيل بقي ممتنًا لمبادرةٍ وسعيٍ واستجابةٍ ذاتيةٍ دون تدخلٍ أو وساطة.
** موقفٌ نادرٌ من مواقف الكبار رآه بعينِ الامتنانِ فلم يبرحْ ذاكرتَه مذكرًا به وبمواقفَ مماثلةٍ ساقها اللهُ إليه بفضله تعالى من غير أن يبذلَ أدنى جُهدٍ، بل حتى من غير أن يعلم؛ ليبقى هؤلاءِ وما عملوه وشمًا في ذاكرة قلبه الشاكرِ الدّاعي.
** الخيِّرون يبذلون ولا ينتظرون.