محمد جبر الحربي
ولو تقدمنا إلى القرآن، فسيلاحظ القارئُ المتأمل أن الألوانَ مؤصلةٌ في القرآن لفظاً وواقعاً وخيالاً وجمالاً:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (28) فاطر.
تقول العرب أسودُ غربيب.
وفي سورة البقرة يحضر اللون الأصفر، والأثر النفسي الذي يحدثه، إنه لونٌ يمنحُ السعادة: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (69)
وفي سورة الرحمن بكاملها جنةٌ للألوان، بل جنتان..!
أكان ذلك بالإشارة أم بالإحالة، بالتقرير أم بالتخييل، ومن ذلك:
(يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ) (35)
(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) (37)
(كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) (58)
(وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (62)
(مُدْهَامَّتَانِ) (64)
(مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) (76)
نعم إنها جنةُ الألوان، وهي ألواننا، نحن نستحضرها ونرسمها ونستبدلها ونمزجها كما نشاء، فتأخذ أشكالاً وهيئاتٍ جديدة مع العاطفةِ والخيال، وقد فطِنتُ للأمرِ منذ سنين، وما كنتُ أبداً أولَ ولا آخرَ العارفين، وها هو تحول الألوان في ديوان «طفولة قلب»:
لَا لَوْنَ يَبْقَى عَلَى الْحَالِ،
فالدَّهْشَةُ الطِّفْلُ مِلْكُ الْخَيَالِ
الْمْحَارَةُ فِضِّيَّةٌ،
وَالْقَصِيدَةُ خَمْرِيَّةٌ،
وَالتَّهَامُسُ مِنْ نَرْجِسٍ
وَالْبَنَفَسَجُ مِنْ نَظْرَةٍ..
وَالسُّكُونْ.
ومن الملاحظ، أنك حيث تجلس وتكتب مثلاً، تتعود على ألوان الأثاث والديكور واللوحات والإضاءة ودرجتها، ذلك الفضاء الذي قمت باختياره حسب ذائقتك، أو ذائقة أهلك، لكنه بتفاصيله سيصبح تدريجياً جزءاً لا يتجزأ منك مع الوقت، وبعد أن اعتادت العين عليه، فلا يعود يثير دهشتك وفضولك بقدر ما يثير راحتك وسكينتك..
ولكنك لو قمتَ وتأملت إحدى هذه اللوحات لبيكاسو أو لسيلفادور دالي أو غيرهما، لاكتشفتَ فيها جديداً يدهشك..!
فماذا لو قطفت وردة أو فلة، نعم وردةً أو فلة واحدة أو غصناً صغيراً من الريحان، ووضعتها في الماء.. حتى لو في فنجان قهوةٍ عربيةٍ، أو في فنجان شاي، ثم وضعتها على الطاولةِ أمامك حيث تتأمل وتكتب، فما الذي سيتغير، وما الذي سيحدث..؟!
لا شك أن تأثيراً نفسياً إيجابياً سيحدث، فأولاً أنت قمت وتحركت وعملتَ ما يسعدك، وثانياً أنت غيرتَ المشهد أمامك، ونقلته من العادي والمألوف إلى الجديد والمختلف، ثم إنك لا شعورياً ستقرب هذا الإناء الصغير، أو الفلة أو الوردة أو غصن الريحان منك لتتأكد من جمال الرائحة، ثم ستفعل ذلك مراراً بكامل مشاعرك لتستمتع بها، وعيناك مستمتعتان بجماله.
فإذا ما كتبت حضر البياض، وحضر العطر.. حضر الجمال.
وأنا هنا بسطت الأمر، وفي البساطة متعة وجمال، فلم أقل باقة، أو آنية وردة وفل وزنبق منتشرة في كل زوايا البيت.
إنه من الجميل أن نقوم بأمور بسيطة ذات ألوانٍ وبهجة بأنفسنا لأنفسنا، ولمن حولنا.
لقد قادني ذلك مراراً إلى راحةٍ وجمال نفسي، كما قادني للكتابة مرات لا تحصى.
ومن البساطةِ التي لها أثر كبيرٌ مع الألوان، أن تجرب أن تهديَ وردةً واحدةً، أو ثلاث ورداتٍ، أو باقةٍ متناهية الصغر لكنها فاتنة الألوان، للمريض الذي ستزوره، أو الصاحب الذي طال غيابك عنه..
أجزم أنه سيسعد بها ويشعر بودك وجمال روحك أكثر مما لو أهديته واحدة من الباقات الفارهة بمئات الريالات، فالمهم هنا هو أنك تذكرته وفكرت به، ثم كنتَ كما أنتَ منسجماً مع ذاتكَ وبساطتكَ دون تكلف..!
أعود للفنجان والفلة، أعود للعطرِ، عطري، و»عطر الناس» وهذا الشعر عن الشاعر:
مَنْ آلَفَ بَيْنَ الْأَضْدَادِ
وَمَنْ أَظْهَرَ لِلْعَيْنِ الْمُخْتَلِفَ مِنَ الْمُؤْتَلِفِ
ادَّارَكَ وَهْمَ الْمَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّ بِنَبْضٍ
أَرْسَى الْوَحْدَةَ بَيْنَ النَّاسِ
تَجَلَّى بَيْنَهُمُو
مِنْ قُرْبِ ثَرَاهُ..
وَمِنْ بُرْجِ سَمَاهْ..؟!
مَنْ غَنَّى النّاسَ،
وَلِلنَّاسِ،
وَزَاوَجَ بَيْنَ الْأَلْوَانِ
وَغَنَّى..
غَنَّى..
حَتَّى صَاحَ النَّاسُ
اللهَ، اللهْ..؟!
نعم هي العينُ والألوان والخيال.. نعم هو سر الفن والإبداع..
فأنت تستطيع أن تفهمَ الإنسان كائناً من كان، وكيفما كان، وأن تتقبله كما هو، لكنك لا تستطيع فهمَ الشاعرِ، أو المبدعِ.. أو الإبداعِ بلا ألوان..!
والألوان هنا كناية عن القيمة المعرفية والفنية.. وقد امتزجتا.
فالشعر والنثر لدينا كثير، لكن قليلاً منه أثَّرَتْ فيهِ، وأثْرَتْهُ الحضارة، وانعكاسات الطبيعة والمعارف والتجارب..
ولنا أن نسألَ هنا: ما هي فائدة القراءة والكتابة والسفر، إن لم تساهم في تغيير وتلوين حياتنا.. وتعزيز إيماننا بجمال خالقِ الكون والكائنات وعظَمَتِه..
وفي الختامِ سنسألُ ما الذي قادنا إلى كل ذلك..؟!
لا شك أنه اللون ببساطته وعمقه وغموضه في نفس الوقت.. ونكمل بثقة فنقول: كذلك الإبداع..
ولا شك أن في كل ذلك وما ينتج عنه جنةَ الألوان.