د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كنت قد تحدثت في مقالة سابقة عن «ما بعد النص»، وذكرت ما يحدث للنص حين يستنفد القارئ كل المعارف والقواعد المتضمنة فيه، وتصبح مبادئ وأسسساً للعلوم اللاحقة، وفي هذه المقالة أتناول زاوية أخرى لما يحدث للقول بعد أن يقال.
يقصد بـ»القول» هنا مطلق الدلالة على ما يقال، فقد يكون قولاً شفويًا يقوله متحدث ما، وقد يكون نصاً أو رسالة أو كتاباً، يتضمن معنى معينًا. هذا المعنى قد يكون نصياً حرفياً يفهمه الناس عند سماعه أو قراءته للوهلة الأولى، خاصة مع ربطه بما يفهم من قائله وصلتهم به.
ثم إن هذا القول يجد امتداده في شروح الشارحين وبيانهم لما يفهمونه من معناه، وهو ما يمثل موقفاً من القول نفسه. كما يجد امتداده في فهم الناس أنفسهم منه، وما يحدثه فيهم من دلالات. وذلك أن هذا الأثر الذي يحدثه القول في نفوس العامة يختلف عما يحدثه في نفوس الشارحين والمتخصصين. وبعيداً عن مسألة الحكم بمقدار ما يدركه كل واحد منهما من الصواب أو الخطأ، فإنهما عالمان (بفتح اللام) مختلفان من الفهم.
المرحلة الثالثة التي يمتد إليها القول هو ما يتصل بتراكمات هذه الآثار سواء في شرح الشروح أو في فهم الناس غير المتخصصين، وما يقع في نفوسهم من آثار، وذلك أن هذه الأقوال يمكن أن تبني تأثيراً جديداً أو أن تقيم مساحة جديدة من التلقي مبنية على ما يتداوله الناس نحوها من الآراء المبنية على آثارها في نفوسهم، وهي في هذه الحالة تختلف عن الآثار الأولى إذ تصبح امتداداً جديداً لها، بما تحمله من دلالات ومعان.
هذه التراكمات المبنية على الفهوم المشتركة، لا تتصل بالضرورة بالقول الأول في معناه الأصلي، وإنما تتجاوزه لتحدث معنى مختلفاً، هذا المعنى مبني من مكونات عدة، وإذا كنا من قبل قد ذكرنا أن معرفة الناس بالقائل، وما يريده بالقول تسهم في تحديد المعنى، فإن القول نفسه هنا يتحدد حين ندرك أن معرفة المفسر، أو مستخدم القول وما يريده من القول أيضاً يحدد المعنى الأخير، ويمكن أن نستدعي مقولة بعض مؤرخي الأدب حول الاقتباس، وهو أن الاقتباس لا يعني فقط الاقتباس وإنما يتجاوز ذلك إلى أن يكون استعارة القول كاملاً، بمعنى أن المتحدث يأخذ القول المقتبس من قائله فينسبه إليه، وهذه النسبة لا تقوم على النسبة الصريحة، وإنما على أنه ينطوي على الإعجاب بالقول المقتبس بصورة من الصور الذي يجعله لا يستنكف من نسبته إليه، وهذا ما يعني أن معرفة المتلقين لهذا المقتبس تمكنهم من فهم الاقتباس بناء على فهمهم لمستعمله ومعرفتهم به، وهو ما يؤدي إلى ما يمكن أن يوصف بأنه تحوير المعنى المفهوم من النص.
السؤال هنا بعد كل هذه التحويرات والتراكمات، عما يحدث للقول الأصلي، أيظل على ما هو عليه من قبل؟ أو يمكن السؤال مرة أخرى هل يمكن أن نفصل بين القول الأصلي وكل ما اتصل به من مشاعر لاحقة حدثت من تأثيره، وما أثره في نفوس الناس بعد تطاول العهد به؟
هذا السؤال مهم، والإجابة عليه تحتاج إلى بحث كثير وكلام طويل، غير أن ما ينبغي أن نشير إليه هو أن القول نفسه ببعده اللغوي، ودلالاته يختلف عما يحدثه من أثر في الواقع، فإذا كان الناس يذهبون في التفسير مذاهب مختلفة بناء على علمهم ووعيهم في التعاطي معه الذي يشترط أدوات مختلفة، فإن ما يحدثه من أثر في النفس ينتج عنه محاربة الواقع أو مصالحته، وما ينتج عن ذلك من تقاطبات، وافتراق بين الموافقين والمعارضين، ما يجعل الفهم يتجاوز القول نفسه إلى أن يتحول إلى موقف لا يتصل بالقول ببعده اللغوي وما يثيره من دلالة أو رسالة.
وقد يشترك في صناعة هذا الموقف عدد كبير من العناصر التي يكون لها الأثر في بنائه، وليست بالضرورة علمية أو تتصل به بل قد يكون جزء منها سياسياً أو اجتماعياً، يدفع إلى هذه المواقف التي يتخذها الناس بناء على أثر النص، ويمكن أن نضرب على الدوافع التي ليست علمية في الموقف من النص بناء على الأثر الذي يتركه في النفوس بالمقولة المشهورة: «كذاب ربيعة خير من صادق مضر».
كنت قد ضربت مرة مثلاً وأنا أتحدث عن بعض القضايا بالآراء الفقهية التي يتراجع عنها أصحابها بعد أن يتقلدها تلامذتهم وربما يتعصبون لها، فتظل حاضرة في المدونة الفقهية يتجادل حولها الناس، ويتقلدها بعض المقلدين، بالرغم من رجوع أصحابها عنها، وقلت فيما قلته في ذلك الحديث المقتضب: إن هذا التراجع لا يعني شيئاً بالنسبة للقول نفسه، وإن كان يعني شيئاً بالنسبة للقائل، لأن القول قيل في البدء على أسس علمية واعتبارات موضوعية بوصفه قد صدر عن عالم. ما يمنحه شرعية البقاء والاستمرار، ورجوعه عنه، بناء على ظهور اعتبارات على اعتبارات أخرى لديه، لا يلغي الموقف الأول، وذلك في مثل الروايات عن أحمد التي يميل فيها إلى رأي دون آخر، وتمثل رواية أخرى في المذهب يتبعها التلاميذ والمفتون فيه.