د.فوزية أبو خالد
فيما العالم ينقسم في موقفه من الحرب الروسية على أوكرانيا بين مستنكر على روسيا اعتداءها على جارتها المسالمة، بما جعلها تمحو معالم عاصمة كاملة وتشرد أهل كييف وجميع مدن وقرى أوكرانيا لمجرد التحسس من إمكانية لم تكن مؤكدة بانضمام أوكرانيا لحلف الناتو، بما لم يكن ليشكل تهديدا بشكل مباشر للأمن العسكري الروسي ولا للشعب الروسي بل مجرد خلق حالة سياسية مستقلة في أوكرانيا عن تاريخها التبعي لروسيا، وبين مؤيد للحق الأوكراني في تخطيط مستقبل مستقل عن قطب الهيمنة الروسي المتعملق، وإن كان ذلك لن يجعل أوكرانيا بمنجى عن هيمنة القطب الأمريكي والغرب الأوروبي، فإن هذا الموقف العالمي يصاب بالعمى السياسي والعدلي معا عندما يكون في مواقع بعيدة عن الأوروبيتين الشرقية والغربية وعن الولايات المتحدة الأمريكية.
ونجد هذه الازدواجية الشوزفرنية في أجلى أشكالها في الموقف الأمريكي والأوروبي الغربي وأيضا الشرقي من الكيانين المعتدين اللذين ابتليت بهما المنطقة العربية بما يتمثلا في نظامين يقومان بطبعهما على العداء لكل قيم العدل والحق والسلام. أحدهما يتمثل في كيان الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين وتوسعه في الجولان وعلى الحدود المصرية والأردنية منذ بوادر زرع نظام الأبرتيد الإسرائيلي في الخاصرة العربية عام 1936م، إلى توغله واستشرائه اليوم لما يزيد على سبعين عاما عجافا موجعات في الأرض العربية، بينما يتمثل الآخر في الكيان الثيوقراطي لنظام إيران السياسي الطائفي الإقصائي لتنوع وتعدد النسيج الاجتماعي لشعب إيران والمعادي لمحيطه العربي والإقليمي قولاً وعملاً منذ اختراقاته التحريضية الأولى لموسم الحج المقدس على أرض مكة المكرمة من المملكة العربية السعودية مطلع الثمانينات الميلادية إلى هذه اللحظة، التي يبرر هذا النظام المتخلف بأطماعه الاستحواذية للهيمنة الإقليمية حروب ميليشياته اليومية الشرسة من العراق وسوريا ولبنان إلى أرض اليمن.
ويبرهن هذا الموقف الأمريكي الأوروبي المخل بميزان العدل عن نفسه المرة تلو الأخرى في التأييد المطلق لكل جرائم كيان الاستعمار الاستيطاني والفشل المطلق بالمقابل ولو في إدانة القتل العمد اليومي للأطفال والمدنيين العزل.
كما يبرهن هذا الموقف الأمريكي - الأوروبي المنحاز ضد العدالة وضد الحق في المنطقة ويظهر ذروة عماه العدلي من خلال موقفه المتخاذل من كل الانتهاكات الميلاشوية التي ترتكبها إيران في حق الدول الإقليمية المجاورة لها، بما فيها السعي لتجديد عقد الاتفاق النووي معها بدون قيد أو شرط لكل أفعالها الميليشية العابثة بأمن جارها القريب والبعيد العربي من المملكة العربية السعودية والإمارات إلى استفرادها بمصير العراق وتوحيله بالتصفيات على الهوية المذهبية والولاءات الطائفية، ومن مشاركتها مع طاغية سوريا في تشريد الشعب السوري وتآمرها مع حزب الله عميلها على أرض لبنان في شل حياة الشعب اللبناني، إلى عملها على مدار الساعة لما يقارب عشر سنوات اليوم على خراب اليمن وتركيع الشعب اليمني بقفازاتها وأسلحتها بأيدي الحوثي القذرة الملطخة بدم أبرياء اليمن.
إلا أن المخجل الإضافي الذي استدعى مقالي لعقد هذه المقارنة التاريخية الفاضحة في عمى العدل السياسي العالمي عندما يتعلق الأمر بمنطقتنا الإقليمية والعربية على الرغم من أهميتها النفطية الحيوية للعالم وللغرب تحديداً، هو أنه بينما تعمل مؤسسة الأمم المتحدة في تمثيلها لمئة وثمانين دولة حول العالم اليوم، كما لم تعمل مع أي قضية عادلة (من قبل ويبدو ولا من بعد) على إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا وتستطيع أن تميز فيها من المعتدي ومن المعتدى عليه (وهي إدانة مستحقة)، فإنها في بيانها البائت بعد أكثر من 48 ساعة من العدوان الحوثي بالنيابة عن إيران وبالسلاح الإيراني على محطات نفطية حيوية (محطة المختارة) بجازان ومصفاة بترولية تابعة لأرامكو ومحطة توزيع المنتجات البترولية شمال جدة من أرض المملكة العربية السعودية، تفشل فشلاً ذريعاً في تمييز من المعتدي ومن المعتدى عليه. فتصدر بياناً تنقصه بصيرة الإنصاف ويلفه العمى العدلي... دون خجل من إراقة ماء الوجه بمثل هذا البيان الذي يساوي بين دولة (هي المملكة العربية السعودية) لو أرادت اللجوء لسياسة القصف الجوي السجادي دون مراعاة لشعب اليمن كما فعلت روسيا في سوريا وكما تفعل الآن في أوكرانيا، ولو أرادت اللجوء لتعطيل المرافق الحيوية في اليمن من شبكة الاتصالات إلى محطات الكهرباء والغاز والنفط لما طال أمد الحرب التي تكاد تكتفي فيه المملكة العربية السعودية بدور الذود عن حدها الجنوبي بسواعد وحياوات جنودها البواسل وليس بأيدي عملاء كما يفعل الإيراني في إشعاله لحرب اليمن.
ومع ذلك وأيضا لكل ذلك ليس لنا إلا الاستقلال بمواقفنا عن التجاذبات القطبية التي طالما لها مصلحة على أرضنا فإنها لن تكترث بصراعاتنا وحروبنا بل إنها قد ترى في استمرارها مجالا حيويا لعرض خدماتها الاستخبارتية والعسكرية في مزيد من توسيع تجارة السلاح وتجارة صناعة الأعداء وصناعة البرابرة كما يسميهم تزيفتان تودوروف في كتابه الخوف من البرابرة: ما وراء صراع الحضارات.. ورغم صعوبة محاولة الاستقلال كموقف المملكة الأخير من عدم الاستجابة لدعوى رفع معدل إنتاجها من البترول، فإن التحصن باللحمة الداخلية وبالوعي المجتمعي وبالمشاركة في السراء والضراء هي من شروط وضمانات مواقف مستقلة تستطيع الإقدام على إنتاج صناعات نقيضة لصناعة الخوف وصناعة الصراعات وهي صناعة التفاوضات السلمية وصناعة التوازن والاعتدال وصناعة السلام.