عبدالوهاب الفايز
وسائل الإعلام الغربية، خصوصًا ذات المنحى الليبرالي المتطرف، ترى أي تحرك سعودي خارجي يستهدف تنويع العلاقات والشراكات الإستراتيجية أنه تحرك سلبي يخرج عن إطار العلاقات التقليدية مع الغرب. هذا الأمر طبيعي، فهذه الوسائل تخدم مصالح بلادها، ومن حقها تقييم الشراكات والتحالفات كما تراها. وهذه الوسائل الإعلامية التي تدعي الحيادية والموضوعية والاستقلالية عن حكوماتها، هذه نراها الآن في تغطيتها للحرب في أوكرانيا (فجأة ودون خجل!) تتخلى عن الحيادية والموضوعية وتنجرف إلى الحرب النفسية والمعنوية وتتحول إلى أداة لـ(البروباغندا السياسية) الصريحة وتنزلق إلى نشر (الفبركات) الإعلامية التي عادة مساحتها وميدانها وسائل التواصل الاجتماعي المنفلتة!
الدول ذات السيادة من حقها أن تسعى خلف مصالحها العليا، وبلادنا وأشقاؤها في الخليج وفي بعض الدول العربية يُعيدون تعريف مصالح شعوبهم. في السنوات الأخيرة اتجهت بلادنا إلى تنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية وهذه خطوة إيجابية، وسمو ولي العهد في اللقاء الأخير مع مجلة الاتلانتك، وحتى في لقاءات سابقة عديدة، أكد بوضوح أن الحكومة السعودية سوف تتحرك في الإطار الذي يخدم مصالح الشعب السعودي، سواء كان ذلك في شراكاتها التجارية، أو في برامجها العسكرية الدفاعية، أو في سياستها البترولية داخل تحالف أوبك.
وهذا المنحى في إدارة العلاقات والمصالح الدولية أول من تبنته أمريكا، فشعار (أمريكا أولاً) كان برنامج الرئيس ترامب الذي حمله للبيت الأبيض، والرئيس بايدن يتبنى هذا المبدأ بطريقته الخاصة، سواء في توحيد الجبهة الداخلية الأمريكية لمقاومة صعود الصين، أو في مواجهة روسيا في الحرب الجارية. أمريكا وضعت مصالحها أولاً.. ولن تلام.
وفي هذا السياق تقدم أمريكا الآن مصلحتها الخاصة ومصلحة حلفائها في حوارها مع النظام الإيراني. ففي سبيل توفير البترول والغاز لأوروبا تتنازل لطهران في أمور جوهرية خطيرة مثل شطب الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وهذا يعني غض الطرف عن الأنشطة الإيرانية التخريبية التي تقودها عبر جماعات الحوثي وحزب الله اللبناني وميليشيات الحشد الشعبي الإرهابية في العراق وسوريا.
هذا التنازل الأمريكي لإيران ربما يقدم فرصة مثالية. أعتقد من واجب الحكومات العربية أن تطور وتجدد تحالفاتها الدولية، فالرهان على المواقف الأمريكية والبريطانية هو الذي يجعلنا نواجه مخاطر وجودية حقيقية بسبب دعم المشروع الإيراني التخريبي واستخدامه لتخريب المنطقة، والسكوت على مسعاه لامتلاك السلاح النووي. إيران تعرف أهمية امتلاك السلاح النووي ودوره في الردع وفي المساومة السياسية.
الأمر المؤكد أن المشروع الإيراني التخريبي يتم استثماره لأجل عسكرة الشرق الأوسط وتحويله إلى منطقة للصراعات الممتدة، والهدف طبعًا: إخراج الثروات وعدم توطين الاستثمارات وإعادة تدوير الموارد المالية حتى تكون مصدر التمويل الرخيص لأسواق المال الأمريكية والغربية. والأخطر هو إدخال المنطقة في معادلة الصراع مع الصين وروسيا.
ستكون إيران مصدر القلق الرئيسي، وفي الأسبوعين الماضيين صعدت جماعة الحوثي التي تدعمها وتسلحها إيران هجماتها الإرهابية على المنشآت الحيوية في المملكة. هذه الهجمات سوف تتصاعد إذا تم رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، فهذه الخطوة سوف توفر له الأموال وتجدد الظروف الإيجابية لميليشياته التي تعمل بالوكالة عنه لزعزعة الاستقرار في العراق واليمن ولبنان، وتساعده على تطوير الصواريخ الباليستية التي ستكون أداة فعالة لخدمة طموحات طهران الإقليمية. مع الأسف الإدارة الأمريكية الحالية مستعدة للتغاضي عن هذا المشروع مقابل إتمام الاتفاق النووي!
من حق أمريكا التراجع عن تقديم الضمانات الأمنية في الشرق الأوسط إذا هذا يخدم مصالحها القومية. في المقابل يبقى من حق دول المنطقة تعزيز علاقاتها سواء مع روسيا أو الصين أو غيرهما. أيضاً من حقها تعزيز قدراتها العسكرية الدفاعية بما في ذلك امتلاك (القدرات النووية). ثرواتنا ومكتسبات التنمية التي حققناها في العقود الماضية وتعبنا في بنائها تتطلب قدرة نوعية للدفاع والردع لحمايتها.
من حسن الحظ أن القيادات في المنطقة أصبحت أكثر وعياً وإدراكاً لمصالح شعوبها، لأن هذه الشعوب أيضًا هي الأخرى تطور وعيها وأصبحت قادرة على فهم أهمية وضرورة التحول الإستراتيجي في علاقات بلادها، وضرورة عدم الارتهان إلى علاقات محصورة مع كتلة أو دول معينة. القيادات تستجيب لمصالح شعبها. الحراك الإيجابي لإدارة وتنويع المصالح وبناء الشركات هو الأمر الواقعي الذي عملت عليه الدول الكبرى، فهذه تتقلب في إدارة علاقاتها وتحالفاتها بما يخدم مصالحها. ومنطقة الشرق الأوسط في القرن الماضي كانت رهينة لمصالح وهيمنة الدول العظمى، وهو الذي آخر نموها وتطورها.
الآن العالم سوف يدخل حقبة جديدة بعد إعلان الغرب، بقيادة أمريكا، حاجته إلى المواجهة مع الشرق الجديد الذي تقوده الصين وروسيا. والحرب في أوكرانيا يبدو أن الغرب خطط لها بخبث وسوء نية للتسريع في مواجهة واحتواء تطور قوة بكين وموسكو. فالحرب سوف تخدم مصالح قيادات وأصحاب المؤسسات الرأسمالية الغربية العملاقة، بالذات قيادات كارتيلات المال والنفط التقليدية التي هيمنت على إدارة منظومة المؤسسات السياسية والاقتصادية.
وأيضًا تخدم دول أوروبا الغربية الرئيسية اقتصاديًا وسكانيًا. فملايين المهاجرين الأوكران هم أفضل من يساعد على مشكلة التراجع السكاني. وهذه النية المبطنة تفسر القرارات السريعة التي اتخذتها الحكومات الأوربية لاستيعاب اللاجئين ومنحهم إقامات فورية بمنافع شاملة ولسنوات قادمة. وهذا مخالف لما حدث للاجئين من الشرق الأوسط وإفريقيا الذين مازال جزء منهم في معسكرات اعتقال!
كما قلنا، الدول والشعوب الغربية طبيعي أن تسعى خلف مصالحها وتكون مستعدة، وبدون حياء أو تأنيب ضمير، لاتخاذ المواقف المنحازة وإشعال الحروب!