محمد سليمان العنقري
مضى أكثر من شهر على اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا والتي واجهتها دول الناتو ومن تحالف معها بفرض عقوبات شديدة على روسيا تخطت 5500 عقوبة. شملت أغلب نشاطات موسكو التجارية باستثناء تدفق النفط والغاز لأوروبا، بينما تخطت في تفاصيلها كل التوقعات، حيث عوقب الرياضيون الروس والفنانون بمنعهم من المشاركات الخارجية في دول التحالف وحتى الطلاب الذي يدرسون في جامعات العديد من دول الغرب تأثروا بهذه العقوبات، إذ إن جعل روسيا دولة منبوذة بالنسبة لهم كان هو الهدف، مستغلين ارتباطها الاقتصادي الضخم معهم، حيث يذهب نحو 70 في المائة من الغاز الروسي المصدر لأوروبا وكذلك نحو 25 في المائة من صادراتها النفطية، حيث تمثل إيراداتهما نحو 42 في المائة من موارد الخزينة الروسية بالإضافة للصادرات الكبيرة من المعادن والسلع الغذائية كالقمح والحبوب عموماً للسوقين الأوروبي والأمريكي، لكن هل الانكماش في اقتصاد روسيا هو الوحيد الذي سينتج عن تلك العقوبات والذي يتوقع أن يصل لنحو 15 في المائة وفق بعض التقديرات الغربية.
في الحقيقة أن اقتصاد أوروبا وأمريكا والعالم لن يفلت من تأثير هذه الأزمة، فتجاوز أسعار الطاقة لمستويات غير المتوقعة بوقت قياسي وارتفاع تكاليف الإنتاج عالمياً وكذلك النقل والتأمين ونقص الإمدادات بالسلع عموماً وعلى رأسها الغذائية، كون روسيا وأوكرانيا يصدران نحو 29 في المائة من واردات دول العالم من القمح وبعض الحبوب وسيلعب دوراً بتفاقم مشكلة ارتفاع التضخم الذي وصل لمستويات ما كان عليه قبل أربعة عقود وبدأت البنوك المركزية وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي باتخاذ سياسات متشددة لمواجهة التضخم كرفع أسعار الفائدة والتخلص من برنامج التيسير الكمي الشهر الحالي والتفكير بمزيد من رفع أسعار الفائدة لما بين 4 إلى 6 مرات هذا العام، بل التلميح لإمكانية رفعها بنصف نقطة أساس في الاجتماع المقبل خلال الشهرين المقبلين والذي لو حدث فسيكون لأول مرة منذ سنوات طويلة، إذ اعتادت الأسواق على خفض الفائدة بمثل هذا المقدار لكن رفعها غالبا لا يزيد على ربع نقطة في كل جولة مما يدلل على صعوبة ما يواجه البنوك المركزية للدول الكبرى خصوصاً أمريكا في تخطي تداعيات هذه الأزمة المعقدة خصوصاً أنها تأتي وما زالت تداعيات جائحة كورونا جاثمة على صدر الاقتصاد العالمي، حيث ما زالت مشكلة سلاسل الإمداد قائمة والتي رفعت معدلات التضخم بنسب كبيرة قبل أزمة روسيا مع أوكرانيا، إذ وصل التضخم في أمريكا إلى 7 في المائة منذ نهاية العام الماضي ويقترب حاليا من 8 في المائة مما يذكر بارتفاعه إلى 13 في المائة قبل نحو خمسة عقود عندها رفع الفيدرالي الأمريكي الفائدة إلى 20 في المائة.
وقد يكون من غير الممكن ذكر كافة المؤشرات التي بدأت تدل على خطر وقوع ركود تضخمي كون أسعار السلع ترتفع، بينما بدأت تتغير التوقعات بخفض نسب النمو الاقتصادي، بينما زاد تسطح منحنى العائد بين السندات القصيرة والطويلة الأجل، فخطر الوقوع في هذا النوع من الركود سيزيد من صعوبة العودة لمعدلات نمو وصل لها العالم مؤخراً، بعد أن أنفق 30 تريليون دولار منذ بدأ جائحة كورونا في 2020، فأمريكا التي تأثرت بشدة في أزمة كورونا وفقد سوق العمل فيها 40 مليون وظيفة ورغم استعادة أغلبها بعد الإنفاق الهائل فيها لمواجهة أزمة الجائحة إلا العودة للركود هذه المرة سيفاقم مشكلة البطالة وسيكون من الصعب على الفيدرالي الأمريكي أن يوازن بين الحفاظ على النمو وكبح التضخم خصوصا أن الحكومة الأمريكية بلغت ديونها السيادية 30 تريليون دولار نحو 130 في المائة من ناتجها الإجمالي فهل بإمكانها ضخ المزيد من الأموال عبر الاقتراض. فمن أين ستسدد أمريكا هذه القروض التي لن تتوقف عن الارتفاع بعد عقد أو اثنين على أبعد تقدير خصوصاً أن مكانة دولارها مهددة بالبقاء كعملة احتياط أولى في العالم وعلى دوره في تعاملات التجارة الدولية وتسعير السلع أما أوروبا فهي تعاني إشكاليات اقتصادية منذ سنوات ومعدلات نموها الاقتصادي ضعيفة وارتفاع تكاليف الطاقة عليها سيشكل ضغطاً كبيراً على تكاليف الإنتاج والاستهلاك لديها ولذلك فإن كل هذه التداعيات ستصل بالقوى المتصارعة الغرب بقيادة أمريكا ضد روسيا إلى مرحلة سيضطرون معها للجلوس مجدداً على طاولة الحوار من منطلق واحد هو حماية اقتصادياتهم من الدخول في ركود تضخمي وانهيارات سريعة في أسواق العمل فيها مما سيرفع من البطالة بشكل حاد، فلكل طرف قدرة على التحمل لكن لن تكون بعيدة زمنياً عن تاريخنا الحالي.
يبدو أن الطرفين يقومان بلعبة عض الأصابع وكل طرف ينتظر أن يتألم الطرف الآخر ويعلن استسلامه لكن من الواضح أنهم أيضا يعلمون تماما قدرة كل منهم على الصبر، فرغم أن الدول المتحالفة ضد روسيا تستحوذ على نحو 70 في المائة من اقتصاد العالم، لكن قدرتها على التحمل لن تكون طويلة، فهي دول تواجه تحديات سياسية واقتصادية داخلية عديدة ولن يكون حالها أفضل من الموقف الروسي بالقدرة على الصبر والتحمل ولذلك فإن الاقتصاد هو من سيكون له الكلمة بحل هذا النزاع والتفاهم على ما يمكن أن يوجد التوافق لإنهاء هذه الأزمة التي لم يكن العالم يتوقعها بهذا التوقيت السيء بعد أكبر إغلاق اقتصادي قسري بالتاريخ بسبب تفشي فيروس كورونا، فحماية هذه الدول لاقتصادياتها سيكون هو المحرك لإيجاد الحلول وإلا فإن جميعهم سيدفعون ثمناً باهظاً وسيعقب ذلك تداعيات لا يمكن استبعاد أي احتمال منها حتى لو كان نشوب حرب عالمية ثالثة.