أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: سيظل المسلم مدى عمره إن جعل الله له فسحةً في العمر في بركات كل شهر من شهور رمضان المبارك؛ وهي أن يصومه احتساباً، وأن يقومه احتساباً، وأن يتحرى ليلة القدر؛ فيشد المأزر؛ فيقومها احتساباً؛ فيصادفها.. وأعظم بركات شهور رمضان المبارك أن كل شهر من شهوره يخلف وراءه تربيةً تربط الشهر بالشهور التي بعده؛ فيصبح العبد من جرائها من فئة الملأ الأعلى الذي أنعم الله عليهم؛ وهم النبيون والمرسلون والصديقون كأبي بكر ومؤمن آل فرعون رضي الله عنهم والشهداء والصالحون؛ وحسن أولئك رفيقاً؛ فيظفر بالمقام الأعلى يوم التغابن مع النعيم المقيم في كل دنياه من جراء محبته ربه، ومعاينته ألطافه، ولذاته التي لا تنتهي بكتاب ربه أخباراً وأحكاماً ولغةً وبلاغةً ورتوعاً في معاني أسماء ربه وصفاته؛ فيرى الكون (وكل ذلك صادر عن عظمة الرحمن وإيجاده جل جلاله) كل شيء أمام عظمة الرحمن؛ ولا يحيط بعظمة الرحمن إلا الرحمن نفسه.. ومن عظمة الرحمن تصدر فواتح الرحمن بالرحمة عند الدعاء إذا ضاقت على العبد منادح القول وهو يريد أن يطلب من ربه قضاء حاجاته؛ ولهذا يفتح الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فواتح من تمجيد الرب لم يكن يعلمها في دنياه عند سؤاله ربه المقام المحمود يوم القيامة؛ فيقول له الرب الكريم: ارفع رأسك وسل تعط؛ بل إن العبد المفرط في شهر رمضان؛ فينام أكثر نهاره؛ ويقوم لصلاته كالذين يقومون كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ويكون في الليل سارباً ينادم أصدقاءه بالمضحكات المسليات، ويقطع ليله بمثل لعب الورقة، ولكنه لا يرتكب فاحشةً.
قال أبو عبد الرحمن: التربية الرمضانية خير يتجدد؛ فمن ظفر بالتربية الرمضانية صياماً وقياماً وتلاوةً للقرآن الكريم وحفاظاً على الفرائض مع أداء ما تيسر من السنن الرواتب، مع المحافظة على أدعية الهداية البيانية والتوفيقية في رمضان وبعده: سيجد نفسه يترقى في درجات المحسنين إلى أن يلقى ربه راضياً مرضياً؛ فأول ممارسات التربية أداء الصلوات الخمس بإحسان؛ وأحب شيء إلى الله من عباده أداؤهم ما افترضه عليهم؛ وبهذا صح الخبر الشرعي.. والإحسان (إن كان مأموماً) يكون بالتبكير إلى المسجد؛ فهو في صلاة ما انتظر الصلاة؛ وهكذا اشتغاله مبكراً قبل الأذان بشروط الصلاة من تطهير الجسم والملابس والطيب امتثالاً لما جاء في سورة إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (سورة الكوثر/ 1)؛ فهذا شريعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته؛ فهو في صلاة وإن فاته بعض الوقت بعد الأذان، ولكن عليه الحرص على أن لا تفوته السنة الراتبة قبل الصلاة.. والمحقق عندي أنه من الإحسان أن يقضيها بعد الصلاة في بيته؛ لأن مكان النوافل في البيوت حتى لا تكون بيوتنا مقابر؛ ولهذا فالصلاة النافلة بعد صلاة الجمعة تقوم فيها ركعتان في تسليمة واحدة مقام تسليمتين في المسجد.. ومن بركات التربية الرمضانية: أنه يأتي لتلاوة كلام الله بشوق عارم سواء أكانت تلاوته في المسجد قبل السنن الرواتب وقبل الصلاة، أم كانت في بيته بعد ذلك، ويسهل الله عليه التلاوة؛ فلو انساق مع شوقه لختم القرآن في ثلاثة أيام.
قال أبو عبدالرحمن: والأمثل أن يقرأ في المسجد بعد السنة الراتبة، وقبل الصلاة ما تيسر من التلاوة.. وبعد صلاته النافلة في بيته يباشر أعماله الحياتية لشيء سأذكره بعد قليل إن شاء الله تعالى.. وبعد صلاة العصر، وقبل صلاة المغرب إن بكر إلى المسجد، وقبل صلاة الجمعة: فعليه أن يكتفي بقليل من التلاوة، ويجتهد في الدعاء والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والاستغفار.. وإن جاء للمسجد قبل صلاة المغرب وقت اصفرار الشمس: فالمحقق عندي أن لا يصلي تحية المسجد إلا بعد الأذان.. وقول بعض الفقهاء: (بل يصلي تحية المسجد لأن الشرع أمر بذلك قبل أن يجلس؛ فهي من ذوات الأسباب): مردود بأن الله نهى عن الصلاة في ذلك الوقت؛ فالنهي ذو سبب - وجملة (من ذوات الأسباب) رأي بشري، وليس حكماً شرعياً -؛ واجتناب المنهي مقدم على فعل المأمور به؛ لأن التحلية مقدمة على التخلية كما قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ (سورة البقرة / 256)؛ ولهذا أيضاً كان الكفار مطالبين بأداء الصلاة وبكل فروع الشريعة؛ ولكن ذلك لا يقبل منهم وإن فعلوه إلا بعد الإيمان.
قال أبو عبدالرحمن: وقولي: (وبعد صلاة النافلة يباشر أعماله) أعلله بأن الله لم يجعل ما شرعه مما لم يحدد له وقت مانع إيانا عن ممارسة أعمالنا؛ وإنما نمتثل ما شرعه الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (سورة الشرح/ 7)؛ فنقضي شؤوننا وحقوق الأهل والولد وإخواننا المسلمين كزيارة مريضهم، وتشييع ميتهم.. ومن شؤوننا أن نراجع معاني آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لنزداد علماً، وليسهل علينا فهم نصوص الشرع، واستحضار المعاني المتعددة المتعلقة بنص واحد على طريقة التفسير الموضوعي؛ فهذه الأمور عبادة مع صدق النية كما في حديث (وفي بضع أحدكم صدقة)، وكما جاء في دعاء الاستفتاح: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (سورة الأنعام/ 162)؛ وهي مفتاح الإمامة في الدين؛ فيكون عبد الله عالماً عابداً.. والأمثل أن لا يختم القرآن قبل خمسة عشر يوماً أو عشرة أيام على الأقل؛ ليعطي التلاوة حقها من الترتيل والتجويد والتأمل والتسبيح والتهليل والتحميد والدعاء والاستغفار والاستعاذة عند كل مناسبة، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني وعنهم وعن جميع إخواني المسلمين-