د. عبدالحق عزوزي
قلنا الأسبوع الماضي بأن هناك شبه يقين بأن الفرنسيين سيصوتون على الرئيس ماكرون، أولا لضعف شخصية وبرنامج منافسيه، وثانيا لتداعيات الحرب في أوكرانيا، حيث إن الخوف يعم كل الفرنسيين، بل كل الأوروبيين، وحيث إن غلاء المعيشة بدأت ترخي بظلالها على مناحي الحياة اليومية للمواطنين، وهو ما يجعل من التصويت العقابي في هاته الفترة أمرا مستبعدا.
وفي هاته المقالة سنتطرق إلى أزمة داخلية عاشتها فرنسا منذ سنوات بسبب غلاء المعيشة، وسميت آنذاك بقضية «السترات الصفراء»، حيث كان يحتشد الآلاف من المتظاهرين في العديد من المناطق الفرنسية للاحتجاج على ارتفاع تكاليف الوقود والسياسات الاقتصادية للرئيس الفرنسي ماكرون. وأغلق المتظاهرون الذين كانوا يرتدون السترات الصفراء والتي يتعين على جميع سائقي السيارات في فرنسا حملها في سياراتهم، الطرق السريعة في جميع أنحاء البلاد بحواجز محترقة وقوافل من الشاحنات بطيئة الحركة مما عرقل في تلك الفترة الوصول إلى مستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع.... وعارض المحتجون آنذاك الضرائب التي فرضها الرئيس ماكرون على الديزل والبنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءمة للبيئة. وعلاوة على الضريبة، كانت الحكومة قد عرضت حوافز لشراء سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة.
ومثلت الاضطرابات في تلك الفترة معضلة لماكرون الذي صور نفسه بطلا في مواجهة تغير المناخ لكنه تعرض للسخرية لعدم تواصله مع الناس العاديين.
ما كان وقع في فرنسا وما يقع اليوم من غلاء المعيشة في العديد من دول العالم بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا، يذكرني بأحد أبحاث الاقتصادي الكبير جون لويس ريفرز (Jean Louis Reiffers) والذي له برامج تنموية متعددة استعانت بها أعظم المؤسسات البنكية العالمية والاتحاد الأوروبي، حيث يقول في إحدى مقالاته التي كنت قد نشرتها له في أحد الكتب الجماعية أن الحراك الاجتماعي يبلغ أشده عندما يرتفع ثمن بعض المواد الحيوية للمواطنين؛ ويحكي في تقريره الأكاديمي ما عايشه هو شخصياً مع البنك الدولي ودولة مصر منذ أكثر من خمسة عقود، إذ قامت المؤسسة البنكية العالمية بفرض مقولة «لا تدعموا أبداً القمح»؛ ويكتب الاقتصادي الفرنسي: «وهنا أثير انتباهكم إلى أننا إذا دعمنا ثمن القمح، لن يستطيع فلاح النيل إنتاج القمح لأن الأثمان ستكون منخفضة جدا في السوق. فهل هذا خطأ في الاقتصاد؟ هذا صحيح! فإذا كان ثمن القمح منخفضا جدا لأنه مدعم حتى يمكن للأم المصرية أن تصنع الكسكس والخبز وتغذي أطفالها، فالفلاح لن يستطيع إنتاج القمح، وبالتالي سيزيد الاعتماد على الدولة (انظر أيضا ما حصل في شمال تونس بهذا الخصوص، وهي المنطقة التي كانت مخزنا للقمح بالنسبة للرومانيين). رفض الرئيس السادات هذا الأمر ثلاث مرات، لكن في المرة الرابعة قال: إنكم تزعجوني، أنا في حاجة إلى المال، سأفعل ذلك؛ وكنت ذاك اليوم في ساحة التحرير؛ ولا أظن أنني شعرت بالخوف في حياتي مثل ما شعرت به ذلك اليوم؛ كانت الساحة مزدحمة والسيارة تهتز والفنادق الكبرى للقاهرة بدأت تحترق.. أسبوعا فيما بعد، قال السادات لمسؤولي صندوق النقد الدولي: «رأيتم ما حصل؟» ثم عاد لدعم القمح. وقد تصادف أن كنت موجودا بعد ثلاثة أشهر في بعض المدن كتونس حيث حصل نفس الشيء لكن بشكل أقل عنفا، لأن المسألة كانت تتحرك عموما بشكل أكبر في القاهرة.. فليس من الممكن في العالم المعاصر أن تؤدي أم الأسرة المصرية أو التونسية 30 في المائة إضافية على ثمن القمح في ظرف ثلاثة أشهر خاصة مع مستوى الدخل المتوسط».
وهذا كلام كله صحيح.. ولهذا السبب تجنح العديد من الدول إلى ما يمكن أن يسمى بنظام المقاصة مع درجة مرتفعة في الدول العربية، لأن السلم الاجتماعي غالبا ما يكون منوطا بدعم الدولة للمواد الأولية.. هذا النظام يهدف إلى تأمين التزود بالسلع وضمان مستوى الأسعار في السوق الداخلية، وذلك بتجنب نقص أو زيادة التموين، ودعم الصناعات الفلاحية، الخ. بعبارة أخرى يعني استقرار الأسعار تثبيت السلم الاجتماعي، لأنه لا يمكن تصور السلم الاجتماعي دون تدخل الدولة في ترشيد أسعار ورواج المنتوجات المختلفة، ونحن نتذكر ما وقع في الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 حيث اضطرت الدولة إلى تبني سياسات تدخلية وحمائية خوفا على تسريح ملايين العمال من الشركات والزيادة في الأسعار..