الشريف:
عالم النشر مخيف جدًّا ولا يمكن توقُّع نتائجه، وهو ما دفع معظم دور النشر للتريُّث كثيرًا، وربّما الإحجام عن نشر الكثير من الأعمال رغم قيمتها الأدبيّة، خشيةَ فشلها، فالفرحة التي تنتاب الكاتب عند نشره لكتابه سرعان ما تتلاشى حين يواجه الحقيقة المرّة، وهي أنّ كتابه قد لا يقرأه حتّى من يهديه إليهم.
* كيف أبحرتَ إلى عالم الرواية؟!
ـ إن قُدِّر للموهبة أن تجدَ من يرعاها وينمّيها ويصقلها بالخبرات والدراسة، وأتيحت لها الفرصة للانتشار آتت أكلها وظهر ثمرها اليانع، وإلا فقد تتداعى وتزول دون الاستفادة منها كحال كثير من المواهب التي أضاعها تجاهلنا لها. بالنسبة لي أذكر أنّني كنت في صغري أجيد اختلاق القصص وأسردها على أنّها حقائق، وأغوص في كثير من التفاصيل التي توحي بصدقها. ربّما تكون هذه هي إرهاصات الولوج إلى عالم الرواية، مع أنّها كانت بدايات ساذجة غير مدوَّنة. لكنَّني أدين لها بالفضل في دفعي للتدوين لاحقًا، عندما شرعت في كتابة ما يشبه الرواية، وكان عبارة عن حلقات متسلسلة قمت في الماضي بنشرها بشكل يوميًّ من خلال المنتديات، في شهر رمضان المبارك؛ وقد نالت هذه الحلقات استحسان شريحة كبيرة من القرّاء، على بساطتها وسطحيّتها، وقربها للحكاية أكثر منها للرواية. لعلّ ذلك ما أغراني بدخول هذا العالم؛ إلا أنّ محاولاتي التالية فشلت جميعها، فكنت أتوقّف في منتصف الطريق قبل إتمام أيّ عمل روائيٍّ حقيقيّ؛ وفي جعبتي عدد كبير من الروايات غير المكتملة التي أفقدتني الأمل تماماً، في حينها، بأن تصدر لي رواية يومًا ما. حتى أتت رواية «حتمًا سأكون» ومهّدت لي الطريق.
* ماذا كنت تحمل معك من كتب أثناء رحلتك الفكرية التي تنوي من خلالها كتابة روايتك الأولى, الثانية , الثالثة , الرابعة وهل يختلف الحمل حسب نوع الرواية التي تفكر في بنائها؟
ـ مع أنّ كلًّا من رواياتي الأربع تطرق جانبًا مختلفًا من الجوانب العلميّة والحياتيّة والاجتماعيّة، وتدور حول بعض الأفكار والفلسفات العميقة التي أحبّذ مناقشتها بطريقة غير مباشرة، معتمدًا على أبطال أعمالي وسيرورة الأحداث، إلا أنّني - صدقًا - لم أقرأ أيّ كتاب بغية كتابة أيٍّ منها، بل كتبتها مستندًا إلى ما لديّ من معارف وأفكار وتجارب شخصيّة أو منقولة، عاصرتها أو سمعت عنها مسبقًا، بحيث كنت أعتمد المنهجيّة العبثيّة في الكتابة، بمعنى أنّني لا أنطلق من إعدادٍ مسبق أو رسم أيّة مخطّطٍ، كما ينتهج بعض الروائيّين، بل أترك الأحداث تولّدُ بعضها، والنهايات تأتي لوحدها، حتّى تكتمل المسودّة الأولى، ويكون تدخلي لاحقًا تهذيبًا وصقلًا وصولًا للصورة النهائيّة التي ترضيني.
وللفائدة، دعيني أقول هنا إنّ الأعمال المصنوعة لا تدوم طويلًا، وسيفقد القرّاء اتّصالهم بها لاحقًا، حتّى لو أعجبتهم وقت انطلاقتها، أو تكفّل اسم الكاتب بتمريرها؛ بينما الأعمال العفويّة التي تتمتّع بدرجة كبيرة من الصدق والمنطقيّة، وبشيء من الأصالة، هي التي ستبقى وتُخلَّد، وإن شابت بداياتها شوائب جمّة، ولم تلقَ التقدير المطلوب؛ وهو ما أجتهد كثيرًا أن تكون عليه كلّ أعمالي، تاركًا الحكم فيها للقرّاء بعد مطالعتهم لها.
* الخوف والقلق والتردد كيف قضيت على ذلك وانتصرت لموهبتك؟
ـ هذا السؤال رائع جدًّا، فمعظم الكتّاب يشيرون إلى أنّهم عانوا من الخوف والتردّد قبل نشر أعمالهم الأولى، ولعلّ سبب ذلك هو اختلاس الرواية الأولى - غالبًا - من السيرة الذاتيّة لكاتبها، وصعوبة الفصل بينهما، رغم عدم اعتراف أغلب الكتّاب بذلك، وإن من باب التخلُّص من التبعات القانونيّة التي يفرضها ذكر بعض الأسماء والمواقف، دون الاستئذان من أصحابها؛ هذا الأمر ذكره الدكتور غازي القصيبي - يرحمه الله - في مقدّمة روايته الأولى الشهيرة: «شقّة الحرّيّة»، رغم أنَّ كلّ الدلائل تشير إلى أنّها صوَّرت بالفعل حياة الدكتور خلال دراسته الجامعيّة في القاهرة. هذا الأمر تكرّر أيضاً في الرواية الأولى للصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل: «زينب»، التي تأخّر نشرها كثيرًا رغم انتهائه من كتابتها وقت دراسته في فرنسا، وذلك لظنًّه أنّها لا تليق بمهنته كمحامٍ، وخشيته من أن تُنسَب له شخصيًّا كسيرة ذاتيّة.
الشاهد هنا أنّ الرواية الأولى هي الأصعب كتابة ونشرًا وتقبُّلًا، وقلَّ من ينجو من هذا المعترك الصعب. بالتأكيد لقد عانيت ما عاناه غيري، ولا سيّما أنّ الأعمال الأولى يرافقها - غالبًا - افتقار للتقنيّات السرديّة المحكمة التي تُكتسَب عادة مع الخبرات الكتابيّة التراكميّة، والنقد الذي تتعرّض له هذه الأعمال من المحبّين والكارهين.. ولولا التشجيع الذي وجدته ممّن اطّلعوا على مسودّة روايتي الأولى، لربّما لم أُقدِم على هذه الخطوة التي لها ما لها وعليها ما عليها.
* بمَ تشعر بعدما تخرج الرواية إلى النور؟ وكيف رأيت قراءة المختصين في النقد لأعمالك الروائية؟
ـ بالطبع لا يمكن وصف الشعور الذي ينتاب كلّ كاتب بعد صدور أيٍّ من أعماله، وهو مزيج من المشاعر التي يصعب وصفها، منها الفرحة والتوجُّس والترقُّب والخوف والقلق,ولاحقًا الحسرة، وقد يصل الأمر إلى الندم عندما لا يجد العمل الاهتمام المتوقَّع. فعالم النشر مخيف جدًّا ولا يمكن توقُّع نتائجه، وهو ما دفع معظم دور النشر للتريُّث كثيرًا، وربّما الإحجام عن نشر الكثيرٍ من الأعمال رغم قيمتها الأدبيّة، خشيةَ فشلها، فالفرحة التي تنتاب الكاتب عند نشره لكتابه سرعان ما تتلاشى حين يواجه الحقيقة المرّة، وهي أنّ كتابه قد لا يقرأه حتّى من يهديه إليهم.
لعلّ ذلك يقودنا للإجابة عن الشقّ الآخر من سؤالك، وهو دور المختصّين والنقّاد الكبار في هذه الإشكاليّة التي نعانيها، خاصّة في مجال الرواية؛ متمنّين عليهم أن يولوا الأعمال الجديدة الصاعدة اهتمامهم، بالأخصّ أنّه لا يمكننا أن ننكر جودة بعض هذه الأعمال وقدرتها على مضاهاة أعمال عربيّة معروفة، بل قد تتفوّق عليها.
أشير هنا إلى أنّ هذا الواقع جعل الكثير من الروائيّين يتّجهون نحو النقد بهدف إنصاف بعض الأعمال المهمَلة، ولعلّي أكون أحد هؤلاء المجتهدين في هذا المجال الحيويّ والمهمّ، ذلك أنّ الرواية السعوديّة الحديثة تحتاج إلى أن نقف إلى جانبها ونشجّعها.
ولعلّي أختم في هذه الجزئيّة لأشير إلى أنّ معظم القراءات النقديّة لرواياتي أتت من خارج الحدود، وكانت مقدِّرة لها ومنصفة جدًّا، بينما لم أجد أيّ تجاوب معها في أرض الوطن رغم النجاح الذي أصابته في الخارج! ما يجعلني أتساءل عن سبب هذا التجاهل، علمًا أنّ لدينا نقّادًا يُعتدُّ برأيهم وجدارتهم، فعسى الرسالة تصلهم من خلال منبركم، لنستفيدَ من نقدهم وتوجيهاتهم، ونشكّل وإيّاهم داعمًا حقيقيًّا للرواية السعوديّة العصريّة.
* الموهبة وحدها تكفي أو ماذا تحتاج حتى تثبت مكانتها الأدبية؟
ـ البعض يركن إلى موهبته ويعتقد أنّها كفيلة بإنجاحه، إلا أنّ الشواهد على مواهب دُفنت رغم الفرص التي وجدتها والإمكانيّات الهائلة التي تمتلكها، أكثر من أن تُحصى، وسبب ذلك سوء التعامل مع الموهبة والركون إليها وحدها؛ ما يعني بكلّ تجرُّد، أنَّ الموهبة، على أهمّيّتها القصوى، ليست السبيل الأوحد للإبداع، بل لعلّي أقول: إنَّ بعض العناصر الأخرى قد تكفل للمجتهد التميُّز والإبداع والتفوُّق رغم انعدام الموهبة لديه؛ فالموهبة في ظنّي هي الشرارة الأولى التي توقد النار، لكنّ هذه النار لن تلبثَ أن تنطفئ إن لم نوفِّر لها كلَّ ما يُبقيها مشتعلة؛ وفي مجال الكتابة تحديدًا تحتاج الموهبة إلى تغذيتها بشكل مستمرّ بالقراءة، وعدم الاكتفاء فقط بالقراءة المسبقة التي أنضجتها.
وهنا يحضرني موقف للدكتور غازي القصيبي ذكره في أحد لقاءاته «المتلفزة» عندما أورد قصّة شابٍّ جاء يسأله: «كيف أستطيع أن أؤلّف كتابًا مثلك؟»ٍ فكان جوابه: «إنّ كلَّ صفحة من هذا الكتاب كانت خلاصة ألف صفحة قرأتها قبل تدوينه». ما يعني أنّ القراءة هي العنصر الأهمّ الذي تحتاج إليه الكتابة الإبداعيّة. ولعلّي أضيف هنا، أنّ القراءة ينبغي أن تكون شغفًا للتزوّد بالعلم والفهم والثقافة والأدب، على أن تكون قراءة واعية وانتقائيّة، فبعض الكتب لا تزيدنا إلا جهلًا، وبعض القراءات المتعجّلة لا نخرج منها بشيء.
بقي أن أذكر أنّ الموهبة تحتاج أيضاً إلى أن نتعهّدها بالرعاية ونطوّرها بالسؤال، والتجربة، والصّدق مع النفس، وتقبُّل النقد مهما كانت قسوته، وسعة الأفق، والطموح، والجرأة، والإخلاص، واقتفاء الأثر.
* كم من الوقت تمضي مع خير جليس وما أنواع الأدب الذي تقرأ بكثرة؟
ـ في الواقع شغفي بالقراءة بدأ مبكّرًا جدًّا، بما يتناسب مع المرحلة العمريّة طبعًا، قبل أن يقودني الوالد - يرحمه الله - إلى قراءة كتب تفوق بكثير سنّي، وإن كانت في مجملها لا تخرج عن أدب الرواية. فقد ظهر ميلي لهذا الجنس من الأدب منذ نعومة أظفاري، ولا يزال حتى اليوم، ولكنّني في هذه المرحلة أجتهد كثيرًا لانتقاء الكتب التي أطالعها، مخصّصًا جلَّ وقتي لمطالعة الروايات العالميّة والعربيّة والكتب النقديّة التي تفيدني كتابة ونقدًا، ويأتي بعد ذلك أدب الرحلات الذي أعشقه كثيرًا. كذلك لا زلت محبًّا لقدامى الأدباء المصريّين، كمصطفى لطفي المنفلوطي، وعباس محمود العقاد، وأنيس منصور، ونجيب محفوظ الذي أنهيت في سن مبكِّرة قراءة جميع رواياته.
خلاصة القول، أنا أقضي معظم وقتي بين الكتب، ولا ينتزعني منها سوى مشاهدة الأفلام الوثائقيّة التي أعتبرها رافدًا مهمًّا للثقافة والفكر، وأنصح بشدّة بالاهتمام بها والتكثيف منها.
* ما أهم أدوات كتابة المقال الثقافي، وما نوع القراءات التي تقرأ قبل الشروع في كتابة مقال؟
ـ المقال فنٌّ قائم بذاته لا علاقة له بباقي الأجناس الأدبية، وليس شرطًا أن يتقنه كل المثقفين والأدباء. إنّ كتابة المقال تتطلّب أن يكون الكاتب متمكّنًا من مفردات اللغة ونحوها وصرفها، ولديه قدرة على النهوض بالوظائف العقليّة العليا كالتحليل والاستنتاج والتدقيق والمقارنة والتقاط الأفكار الشاردة، كما يحتاج إلى سرعة البديهة والمتابعة المستمرّة لكلّ مستجد، والانفتاح على كّل الثقافات، وأن يكون صاحب مبدأ، ذلك أنّ المتلوّنين لا تلبث أقلامهم أن تجفّ.
بالنسبة إلي المقال هو شغفي الحقيقي، كتبته في وقت مبكِّر، لكنّني لم أتّجه للنشر إلا مؤخَّرًا، وقد سبق ذلك شغف لا يوصف بمطالعة المقالات المتنوّعة، ولا سيّما مقالات الاستاذ عبد الله الجفري - يرحمه الله - والاستاذ عبد الله باهيثم - يرحمه الله - الذي تأثرت كثيرًا بطريقته في كتابة المقال، وكنت متابعًا لجميع كتّاب الأعمدة اليوميّة والأسبوعيّة في صحيفة الشرق الأوسط التي كنت مهووسًا بها.
* لك صولة مع القصة حدثنا عن ذلك البحر وهل هناك مشروع مجموعة قصصية؟
ـ للقصّة القصيرة حكاية يستحيل نسيانها، فقد كتبتها مبكّرًا. كان لديّ مجموعتان أنوي طباعتهما ونشرهما، كان ذلك بالطبع قبل دخولي عالم الرواية بسنوات، ولم يمنعني في ذلك الوقت إلا جهلي بطرق النشر وأساليبه المتنوّعة، والتردّد والخوف الذي غالبًا ما يواكب كلّ البدايات، ولكنّني أحمد الله الذي نجاني من الخوض فيها، ذلك أنّنا نستسهل القصّة القصيرة غير مدركين لسرّ صنعتها وأصولها وكيفيّة سبر أغوارها؛ فهي في ظنّي من أصعب الأجناس الأدبيّة السرديّة، إنّها فنٌّ قائم بذاته، لا علاقة له بالرواية أو الخاطرة، ويخطئ من يضعها في تسلسل معيّن رفقة باقي الأجناس. الشاهد هنا أنّني ارتأيت المشورة عند عزمي نشر مجموعاتي القصصيّة، مستعينًا بأحد الأصدقاء لتقييم تجربتي، وكان ضليعًا في هذا الشأن، فتفاجأت يومها بردّه السلبيّ.. عندها قرّرت البحث بجدّيّة في هذا الشأن، حتّى وقفت بالفعل على سرّ هذه «الصنعة» العظيمة، ولكنّ فهمي لها جعلني أتوجه نحو نقد القصة أكثر من كتابتها، وقضى بالطبع على مجموعاتي القصصيّة التي كانت بالفعل غير جيّدة وسطحيّة جدًّا. حاليًّا لديّ أربع قصص مهمّة، ومتى اكتملت المجموعة سأقوم بطباعتها ونشرها.
* شخوص رواياتك ترحل مع انتهاء كتابة الرواية أم تظل ملازمة لك؟
ـ بالتأكيد لن تبقى ملازمة لي بعد الانتهاء من العمل وإلّا لكانت كارثة. أقول ذلك رغم أن تلبّس الكاتب لشخصيّاته الروائيّة جزء مهمٌّ من إبداعه كروائيّ، وبقدر هذا التلبُّس تكون قيمة الرواية. أذكر أنّني في روايتي الأولى «حتمًا سأكون» بكيت كثيرًا أثناء كتابتها، وعشت معها وكأنّها قصّة حقيقيّة. وكان أكثر ما يؤلمني الحياة الصعبة التي عاشتها أم عبد الرحمن التي قضت حياتها راضخة لمطرقة الفقد الذي تخشى من أن يسلبها ابنها. هذه الحكاية تلبّستني أكثر من عام وأنا أكتب وأنقّح، ولو لم أتخلّص منها لما استطعت كتابة غيرها، فالكاتب بقدر حاجته للتلبّس والتماهي مع أبطاله وقت الكتابة يحتاج إلى التخلّص منهم بعد الانتهاء من العمل، وإلّا فسيكرِّر نفسه بأزياء مختلفة.
* لماذا يرحل الروائي السعودي بروايتهُ من ناحية المكان ما التميز في ذلك؟
ـ هذا السؤال يبدو لي ملغَّمًا، وفيه إشارة خفيّة إلى النهج الذي اتّبعته في رواياتي الثلاث الأخيرة، التي انتقلت بأبطالها إلى بيئة خارج الوطن، بدءًا «بزيف القصاص» التي اخترت لها فضاءً مكانيًّا مدينة دبي، وكذلك «مقتل دمية» التي دارت أحداثها في مدينة أنتر لكن بسويسرا، وأخيرًا «حشيفة» التي اخترت جبال العلويّين في سوريا مكانًا لأحداثها. قد يكون جلّ الروائيّين العالميّين اتّخذوا من أوطانهم ذاكرة مكانيّة وزمانيّة لرواياتهم، كالبؤساء وأحدب نوتردام لفيكتور هيجو، وقصة مدينتين لتشارلز ديكنز، وجميع روايات نجيب محفوظ، ومن المعاصرين حجي جابر في حكاياته المرتبطة بالشأن الأريتري.. أمّا بالنسبة لي، فلكل واحدة من رواياتي سبب جوهريّ رمى بها خارج الحدود، ولا سيّما أنّ المكان والزمان كانا عنصرين فاعلين في الحبكة الروائيّة، كما هو الحال مع حجي جابر في روايته «رغوة سوداء»، إذ لم يكن ممكنًا أن يستمرّ في نهجه السابق ولا ينتقل إلى فلسطين المحتلّة طالما كان حديثه يدور حول يهود الفلاشا في أثيوبيا. هذا ما حدث معي أيضاً، فرواية «زيف القصاص» كانت بحاجة إلى مكان بمواصفات خاصّة تتناسب مع فكرة العمل والمعاني العميقة التي أردت إيصالها من خلاله، وكان من المستحيل كتابتها في مدينتي «ينبع»، أو أيٍّ من المدن السعوديّة، وبالتالي لم يكن يلائمها غير «دبي» التي يتوافر فيها التنوّع الديمغرافي العربي الذي بنيت عليه الحكاية من بدايتها وحتى نهايتها. كذلك الحال بالنسبة إلى «مقتل دمية» و»حشيفة»؛ فللمكان ارتباط وثيق بالعمل كفكرة ومغزى، ويستحيل لمن فهم العمل أن يستهجن خروجه عن المحيط، ولاسيّما أنّهما تتحدثان عن الشأن المحلّي، ولكن من خارج الصندوق.
* أي رواياتك أرهقتك كثيرًا وشعرت بأنك شربت كأس المر إلى أن رأت النور؟
ـ رغم أنّ جميع أعمالي استنزفت جهدي ووقتي وعانيت الأمرّين في سبيل إنهائها، خاصّة أنّني أدوّن كلّ ما يخطر ببالي وأقوم بالاشتغال عليه لاحقًا، ولا أخطّط مطلقًا للكتابة، فالرواية - كما يقال - تكتبني ولا أكتبها، وربّما أترك لها اختيار نهايتها بمشاركة أبطالها. ولكنّ كلّ ذلك لا يجعلني أنسى أنّ روايتي الأخيرة «حشيفة» هي التي قصمت ظهري، كونها كانت مشروع رواية فاشلة كتبتها قبل عشرين عامًا، وخطر لي إعادة كتابتها في السنوات الثلاث الأخيرة، بعد امتلاكي بعض الأدوات الإضافيّة التي قد تساعدني على النهوض بها. دفعني إلى ذلك إيماني الكبير بالفكرة التي تحملها، والتي قد لا يدركها من يطالعها إن لم يمنحها الاحترام الكبير الذي تستحقّه، فكان العمل شاقًّا إذ كان فيه هدم كبير وبناء أكبر؛ ومن المعلوم أنّ الأرض الفضاء أيسر لإقامة المشاريع من الأرض المشغولة إذا أردنا الاستفادة من المباني القائمة وتطويعها وتطويرها، وهو ما حدث معي. لكن، النتيجة التي توصّلت إليها في النهاية أنستني كلّ هذا التعب، وسأجني ثمارها - بإذن الله - مستقبلًا.
* هل تضع خططاً مدروسة لكتاباتك الإبداعية وما خططك القادمة؟
ـ كما أخبرتك سابقًا أنا لا أخطّط للبدء بأيّ عمل، قد أنطلق في العمل بمحض الصدفة وتأتي الأفكار لاحقًا، كما حدث معي في رواية الدمية، إذ إنّ مشاهدة الدمية والخوف منها كانت حقيقيّة وأوحت لي بفكرة العمل، فشرعت في كتابتها أثناء إقامتي في سويسرا.
وأذكر هنا أنّ ابنتي الكبرى كانت تسخر من فكرة تحويل مشاهدة الدمية العابرة إلى عمل روائي، فكانت تقول لي: ماذا ستكتب عنها؟ كنت وقتها أبتسم، ولم أجبها، بل أطلقت العنان لقلمي، ولم يخذلني، إذ أخرج لي أهمّ عمل من أعمالي، والذي سأظلّ أفتخر به ما حييت.
أمّا بالنسبة للمشاريع المستقبليّة فلدي فكرة شرعت بكتابتها لعمل روائي يتحدث عن ينبع، وأنوي استكماله - بإذن الله -. كما أتمنّى أن أستطيع استكمال مجموعتي القصصيّة حتّى يعترف بي أبو هيثم الأستاذ القدير خالد اليوسف، قاصًّا سعوديًّا، ويُدخلني في أنطلوجيا القصّة القصيرة في المملكة العربيّة السعوديّة التي يشتغل عليها حاليًّا، فهو لا ينظر إلى الأعمال الفرديّة، ويشترط المجموعة القصصيّة لإدراج أي اسم.
* أين تحب أن تقف سفينتك حينما تحب أن تقرأ أو تكتب ومتى تشعر أن الموج عالٍ ولا بد من تخفيف الحمل من رأسك؟
ـ في الكتابة أحبّ ترك المركب تقف حيث تشاء دون تدخُّل منّي، وعادة ما أكتفي بوضعها على سطح الماء، وأترك بعدها قمرة القيادة لأستمتع بتنقّلاتها حتّى تقرّر الرسوّ في المكان الذي تختاره، فأنا من أشدّ المعارضين لكبح جماح القلم طالما كان مقنعًا وقادرًا على العطاء ويعلم ما يستحقّ أن يُكتب وما لا يستحق. لكن، تنتابني أحيانًا حالة من العزوف فأُخرج مركبي من البحر وأتوقّف تماماً عن الكتابة، وقد يمتدّ ذلك لأشهر. ولعلّ ذلك ينسجم مع ديمقراطيّة القلم التي أمارسها، فلا أغصبه على شيء لا يريده، وهو كذلك يقدّر عزوفي أحيانًا فيغلق نفسه ويتوارى عن أنظاري حتّى أَذِنَ له بالعودة مجدّدًا, هذه حكايتي مع قلمي.
* هل أصبح هامش الحرية في الكتابة الروائية دسمًا أم ما زال ضيقًا في عصر الانفتاح وهل تحلم بالحصول على جوائز في الرواية؟
ـ بالتأكيد لم تعد الرقابة على المصنّفات الأدبيّة كالسابق، بل اتّسعت كثيرًا مساحة الحرّيّة الكتابيّة في هذا العصر مع تكسّر عدد كبير من الحواجز التي كانت في السابق. ولكن، ذلك لا يغريني كثيرًا بتدسيم كتاباتي كما تصفين، كوني أعتمد بالدرجة الأولى على الوازع الداخلي، وهو يقينًا لا علاقة له بما يحدث في الشارع الثقافي. فالكاتب ينبغي له الركون للمحدّدات الداخليّة وليس الخارجيّة إن أراد الاستمرار. فما نكتبه اليوم قد نندم عليه غدًا، والأفضل أن نكتب ما يستحقّ القراءة في كلّ الأزمان ومع كافّة صنوف البشر.
أمّا بالنسبة للجوائز، فهذا موضوع شائك يطول الحديث عنه. ولكن يكفي القول إنّ إخضاع قلمك لأمزجة البشر، وأعني بذلك محكّمي الجوائز، فيه ظلم كبير له، والعاقل من يمضي في طريقه دون الالتفات إلى مثل هذه الأمور التي إن وضعتها في حسبانك قد تخسر أكثر ممّا تربح. وعلى أيّة حال ليس منّا من لا يمنّي النفس بالحصول على الجوائز، لكنّها ليست الحَكَم الحقّ على الإبداع، فكثير من المبدعين لم تُعرف أسماؤهم إلا في وقت متأخّر، بعد وفاتهم بعقود من الزمن، بينما لم يعد أحد يذكر بعض الأسماء رغم الصيت الكبير الذي قادتها إليه الجوائز الموجَّهَة.
* الكاتب الروائي العربي متهم بأنه ما زال غير قادر على كتابة الرواية التاريخية والرواية العلمية ورواية السجون وغيرها وإنما حصر نفسه في الرواية الاجتماعية والجسد، كيف ترى ذلك كروائي؟
ـ هذا الاتّهام ليس صحيحًا بالمطلق، فهناك عدد كبير من الروايات التاريخيّة التي برع فيها واسيني الأعرج من الجزائر، والدكتور عمر فضل الله من السودان، ولدينا هنا محمد حسن علوان في موت صغير، وغيرهم كثيرون ممن برعوا في كتابة الرواية التاريخيّة وقت ظهور موجة التصوّف الروائي قبل انحسارها مؤخّرًا. ولكن، ربّما علينا الاعتراف بندرتها مقارنة مع باقي الأنواع، والسبب قد لا يكون صعوبتها بقدر ما يكون أهواء شخصيّة وأمزجة كتابيّة.
فأنا على سبيل المثال، لا تستهويني مثل هذه الروايات، ورأيي فيها أنّها تخرجنا من الإطار التخيُّلي الجميل إلى الواقعيّة السيّئة التي تربطنا بشخصيّات معيّنة، وتُلزمنا بمحدّدات كثيرة تُفقد العمل قيمته. فأنا مع التاريخ كفضاء زمانيّ، وضدّ التاريخ كشخصيّات معروفة. وأظنّ أغلب الروائيّين العالميّين ينحون هذا المنحى باستحضارهم الزمن وتغييبهم للشخصيّات الحقيقيّة.
أمّا بالنسبة للروايات العلميّة، فهي بالفعل نادرة في عالمنا العربي وشبه معدومة، وربّما على مستوى العالم، لأنّها تحتاج إلى براعة من نوعٍ خاصّ قد لا تتوافر لكثير من الكتّاب، ومنها التحصيل العلميّ الواسع، والشغف بهذا العالم ومتابعة مستجدّاته، والقدرة على الابتكار والاختراع والقفز على المحدّدات الحسّيّة، وباقي العناصر التي لا غنى لأيّ كاتب يطرق هذا المجال عنها. ما يعني صعوبة الولوج إلى هذا الفنّ، أو بالأحرى صعوبة الإبداع والتميُّز. أمّا بالنسبة لأدب السجون، فهذا موضوع مختلف، والعزوف عنه لا يتعلّق بالكاتب بالدرجة الأولى، بقدر ارتباطه بالمحدّدات الرقابيّة الصارمة التي لا تسمح بالتطرّق إلى هذا العالم، والصدق في نقل وقائعه. مع ذلك، أظنّنا نذكر جيّدًا أنّ الروائي السعودي عبد الرحمن المنيف - يرحمه الله - برز كثيرًا في هذا المضمار، واشتهر بأدب السجون، وإن كانت طبيعة حياته في المهجر ساعدته كثيرًا على الإيغال في هذا الفن.
الشاهد هنا أنّ ذيوع توجُّه معيَّن في الكتابة الروائيّة لا يعني عجز المحجمين أو إتقان المنساقين، بقدر ما يكون بسبب ظروف معيّنة تستلزم التماهي معها واختيار ما يناسب فكرك وقلمك وظروفك. أمّا موضوع الجسد فهو حيلة العاجز الذي يبحث عن إثارة تمهّد له الطريق. فالكاتب الروائي المتمكِّن ليس بحاجة لاستثارة الغرائز، وإن كتب عنها توظيفًا، فالطيّب صالح - يرحمه الله - في رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» نحت الجسد في روايته، وحرّك الغرائز، لكنّه لم يكن مقصودًا بذاته وإنّما فرضته الحبكة الروائيّة والضرورة السرديّة، بدليل استحالة الاستغناء عنه. وهو بهذه الصورة لا يُعَدُّ عيبًا - مع تحفُّظنا عليه من الناحية الأخلاقيّة - وإنّما العيب أن يكون هدفًا يُستخدم للتغطية على الاختلالات الفنّيّة الكبيرة، وهو ما أرفضه تماماً.