لا أظن أحداً يشك بأن الدعاية فن. فالعمل الدعائي الذي يقودك «بدون تفكير» في غالب الأحيان لشراء سلعة؛ ربما لست بحاجة لها؛ هو لا شك عمل فني.
كان ينطوي هذا الفن في بداية ظهوره على معطيات صادقة للسلعة. وبسردية تكاد تكون مملة. ولكن تطور هذا النوع من الفن؛ عبر الزمن «الوظيفي» له؛ أضاف عليه ابتكارات جديدة؛ جعلته أكثر وقعا وتأثيرا من ذي قبل.
الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هي ضرورة وجود الدعاية! فأنت لا تستطيع أن تصل إلى سلعة لا تعرف عنها شيئاً ولم تخطر ببالك يوماً دون المعلومات الدعائية! وحتى السلع التي تعرفها كـ «الأرز» مثلاً، لا تستطيع التمييز بين الجيد وغيره دون الدعاية والتجربة. إذن الدعاية في عالمنا المعاصر؛ الذي بلغ مستوى من تعدد وتنوع السلع فيه حداً منقطع النظير؛ هي «ضرورة».
والحقيقة الثانية التي لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار هي أن الفن الدعائي نشأ بالأساس من أجل التسويق، وبالتالي لابد له كـ «فن» أن يتمتع بمصداقية! قد ينجح منتج ما مؤقتاً في تسويق منتجاته دون «مصداقية»! ولكن مآله الحتمي هو الخسارة، لأنك ببساطة إذا اقتنيت سلعة؛ ووجدتها مغايرة لما أشيع عنها؛ لن تقتنيها مرة أخرى، وستنصح معارفك بعدم اقتنائها.
بيد أن اكتشاف «الشركات» والمؤسسات أن الفن الدعائي لا يخص السلعة وحسب، إنما هو ذو فعالية عالية للإشاعة! والإشاعة يمكنها أن تجعل من الشر خيراً والعكس أيضاً. أي أن الفن الدعائي هنا دخل في وظيفة ليست «سلعية»، إنما اجتماعية وسياسية وعسكرية وأخلاقية و.. و..الخ. وهذه الوظيفة الجديدة «نسبياً» للفن الدعائي جعلت منه أداةً فعالة «لتوضيح أو تزوير» الحقيقة! والحقيقة هي «ضرورة» من ضرورات «الوعي»؛ والوعي لا يميز الإنسان عن الحيوان وحسب؛ إنما بإمكانه أن يجعل من الحمل ذئباً ومن الوحوش دجاجاً. وإذا وضع الوعي مادة للتلاعب الجائر، قد يؤدي بالفرد للجنون والضياع!
المصداقية في الفن الدعائي الذي تغيرت وظيفته «السلعية»؛ لم تعد صفة من مقومات ذلك الفن؛ بل هي «حق» من حقوق الأفراد والجماعات والبشر عموماً. وتزوير الحقيقة قادر على قلب المفاهيم وموازين القوى وإشاعة الفوضى «غير الخلاقة» والمدمرة! وعملية فصل الوعي عن الحقيقة؛ كأنها قطع للتيار الكهربائي، أو الماء أو أي مقوّم من مقومات الحياة؛ عن البشر؛ أي القتل المتعمد!.
التزوير لابد أن ينكشف. وقد راهن ولازال المزورون يراهنون على الزمن. فهم يعلمون جيداً أن حبل الكذب قصير؛ وأن الحقيقة لابد لها أن تنكشف يوماً ما؛ ولكنهم لا يهتمون بمصداقيتهم أمام الناس؛ فهدفهم هو التأثير «المؤقت»! فإذا أنت اكتشفت أنك مخدوع بعد عشرين عاماً من الخديعة؛ فلن يكون ذلك مجدياً لك؛ لأن المزور قد حقق مآربه! ... ولكننا في عالم اليوم لسنا فريسة للمزورين كما كنا سابقاً. ففي السابق كان لديك مصدر واحد للحقيقة؛ إنما بوجود الأجهزة الذكية اليوم؛ والتواصل اللحظي بين البشر من كل أصقاع العالم؛ لم يبق للمزور «زمناً» كافياً للتلاعب بوعيك!.
** **
- د. عادل العلي