أورثتنا الحضارة الزائفة (المعاصرة) ثقافة قشرية خشنة أحدثت صوتًا نشازًا في ثقافتنا، بل في دواخلنا، لأننا احتفلنا بها في ليلة شديدة الظلمة وكانت هي شديدة التوهج، فغطت على أعيننا حتى أن البعض مع خشونتها، أطلق عليها لفظ «الناعمة» كونها سرت سريعا وحثيثا لم تشعرنا بالانتقال، فأبحرت بنا في فضاءات العلم والمعرفة، وقعدت القواعد ووضعت الأدوات، ثم أخبرتنا بوجوب مواكبتها و إلا فاتتنا الحياة، ولا شك أن مواكبة العصر، أحد متطلبات التحضر، وهو شيء تحتمه الحياة فالتغيير سنة كونية، وربما متطلب حضاري جمالي، لكن ليس كل ما تأتي به جميل فإذا كان (بيرديو) يرى أن هناك حاجة للجمال وأنه العامل الحاسم في الحكم على المجتمعات بالتحضر، فالجمال والبحث عنه في مجال النقد أصبح ترفًا، و لا غاية منه، بل حل محله القبح، وهذه مرحلة أتت بعد عمليات من السطو على النصوص بإبعاد مؤلفها وتنصيب اللغة بدلًا عنه، لتكون هي جوهر البنية ـ وهذه حقيقة ـ، ويكون النص مجهول الهوية، فماذا لو شبهنا النصوص الأدبية بالبيت، أو السكن وهذا التشبيه ليس ببعيد، لأنه مستخدم في أدبيّاتنا، فاذا أسقطناه على ما يدور في فلك النقد من رؤى ونظريات، فإننا مباشرة نحس بأن الأرض تنهب، والسكان يهجرون، والقوة العظمى تسيطر والبيت لا استقرار فيه ولا قرار له، وأن صاحب البيت لا حول له ولا قوة ولا سيطرة له على ما يملك، فلا نفهم هل دخلنا فيما يمكن أن يسمى بشيوعية النص أم ديمقراطية صاحب النص، فالبنيوية تنزع والتفكيكية تجعل النص في حالة السيولة الدائمة، مما يفضي الى حالة من السيولة في المعرفة والثقافة، كون النص متحرك شديد الركوض في معناه ما يؤهله أن يضاف إلى حالات السيولة في سلسلة «باومان « فيما يمكن أن يصطلح عليه بـ»المعاني السائلة» ثم مع هذه السيولة تعترضنا أنساق النقد الثقافي فتستحضر المؤلف لتجلده وتستخرج ما يستبطنه في مضمر نسقه، وليتها تبشرنا بالمعاني الجميلة أو تقيس على السياق، فتكشف بعضا من الحقائق، بل تبحث عن القبيح المضمر وراء الجمال المعلن. رغم استبشارنا بالنقد الثقافي كونه ثقافيًا ويخرج عن نطاق النقد الأدبي ليعمل في مجال نحتاج متابعته وتقويمه، إلا أن الكرة كانت (فاول) فمتى تعود الصلابة، ومتى عودة المؤلف، ومتى يستخدم النقد للتطوير والبناء والتعمير وخدمة الحياة والإنسانية؟
** **
د. رجاء يوسف شاهين - جامعة المجمعة