علّمتني مهنة الصحافة أنّ لكل مثقف وكاتب حديثين منفصلين عن بعضهما بعضا وأنّ أحدهما يمكنك الحصول عليه من خلال جميع حواراته، وكتاباته، ومشاهده، وتصريحاته.. دون أن يقوله لك، وأما الآخر فهو الذي يمكنك توثيقه عنه في حوار خاص معه ولهذا يمكنني القول بأنني وفي هذا الحوار مع ضيفة «الثقافية» حزتُ على حديثين لكاتبة وروائية حديثها الأول حصلت عليه وأنا أبحث عن تجربتها ومسيرتها بين عوالم قرائها وكأني بها تقول: القلم الذي ورّطني ورطة جميلة في الكتابة تركني أحوّله داخلي إلى قبسٍ من نور، وجذوة تشعلني وتسوقني لتحويله إلى أوراق، مستندة على شعوري بأنّ الكتابة التي وهبني إياها هذا القلم ومضى ليست سوى حاسة جديدة تتوالد بيّ وتجبرني على تربيتها، والعناية بها حتى تبلغ منتهاها. الكتابة إذن أجمل الورطات، وأعذب الذكريات، وأرقى ما يمكنه أن يصل به المرء الآخر الذي يعرفه أو يجهله؛ لأنها تقاسيم مشاعرية تحطّ عن قرائنا أكثر مما تحطّ عنّا وترفعنا في نفوسهم كلما آمنوا بأننا نكتب إليهم، أو عنهم، أو عن مشاعرهم التي تستحق العناية والاهتمام. في مقتبل العُمر كنت أرى أنني لن أجد الطريق الأكثر وضوحًا ونورًا إلا عندما أدخله عبر بوابات الكتُب، وهكذا فعلت؛ ولهذا أعيش اليوم ابتهاجات متعددة لعل أهمّها وأبرزها أنني كتبت لأجل الآخرين أكثر مما كتبت لأجلي.
وليس هذا الحديث الوحيد الذي استطعت الحصول عليه من تتبع تجربة الكاتبة والروائية الجوهرة الرمال، بل المزيد مما فاضت به وصاغته للثقافية بإطار الحوار الذي سنترككم معه لترون كيف تستطيع كاتبة في مقتبل العُمر أن تضع يدها على قلوب قرائها وتحمل هموهم وتراعي فيما تكتب كل آلامهم وأوجاعهم.. فإلى نص ما صرّحت به لـ»الثقافية» ضمن حوار مفتوح على كثير من الحكايات والذكريات والتجارب:
- «أنا قبل كل شيء» هذا هو عنوان عملك الروائي الثاني.. وأجزم أن قارئها لسوف يستوقفه (ضمير المتكلم) في غلافها، وإهدائها إلى ذات الضمير، وكذلك في سياق الحكائي.. وسؤالي هنا: برأيك هل يستطيع الكاتب التخلص من ذاتيته حتى وإن كان هو الراوي، أو هو المُهداة إليه روايته؟ وتحديدًا حين لا يُشار على إطار الغلاف إلى أن ما كتبه سيرة ذاتية!.
- ذاتية الحوار تلامس كل قارئ ليشعر وكأنه بطل الرواية ويتنقل بين أحداثها ويعيش خيالها كواقع حتمي.. ترسل له رسائل وتعليمات، وأدوات إشارة وحتى ضمائر غائبة ومتكلمة، وهو بدوره يتقبلها وكأنها وجهت له وحده وقد يرفضها أيضًا. ولأن روايتي «أنا قبل كل شيء» تستهدف الفئة الناشئة فقد ارتأيت وفق أدواتي أن مثل هذا الأسلوب يجذبهم أكثر ويربيّ فيهم حاسة الاستشعار والعناية بكل ما يمكنه إبلاغه لهم من التجارب والعِبر التي ترقى لأن تكون حكاية يرويها أبطال مهما بدا لنا وكأنهم حديث على ورق إلا أنّهم محمولون بأفكار تتشابه معهم، ومشاعر تعبّر عنهم، أو تسكنهم.. إلا أنني ومع كل ما مضى أعود لأقول: بأنه لا يمكننا التيقن بأنّ كل قارئ قد يحتاج منّا لأن نشير إليه بخرائط ذهنية نشعره بما هو متناسق مع ذاتيته أو منفصل عنها.
- « أنا قبل كل شيء» من جديد، وسؤالي هذه المرة.. بما أنه عملك الثاني وقد مرّت عليه وعلى تجربتك قرابة العقد من الزمان.. وحديثي سيرتكز على طبعاتها التي تجاوزت (الأربعين).. كيف ترين دور القرّاء وشغفهم بمنجزك الروائي مع تصاعد عدد الطبعات إلى هذا الحد؟ وهل لدور النشر برأيك دور كبير في تسويق أعمال الكُتّاب أم الكاتب هو من يصنع، ويسوّق وجوده بالساحة؟
- الفضل أولاً وأخيرًا لله وحده بكل ما أنجزته حتى الآن، ثم إن استثنيت فلكل من حولي من عائلتي الذين دعموني، ويليهم كل محاولاتي الحثيثة لتكييف الكتابة وفق فئة عُمرية تستحق الاستهداف فيما نكتبه ونقوله؛ لأنهم يمثلون أهم شريحة مجتمعية بالعالم هي فئة الشباب الذين يحتاجون للكثير منّا ليس للكتابة وحدها عما يهمهم، ويلهمهم ويراعي تجاربهم، ومشاعرهم ويعتني بمصير قلوبهم المأزومة بل للمزيد مهما كثُر، ومرةً أخرى عن روايتي «أنا قبل كل شيء» التي أدين لها حقًا بالكثير الآن وبعد؛ لأنها هي من قدمتني للجمهور، وأعطته الثقة فيما كتبته وأمدّتني بيقين أنّ خلفي قارئ يستحق أن أمنحه كل جهودي وإصراري في العناية بجميع ما أكتبه له وعنه، ثم لا أنسى عاملا مهما هو ذاته الذي جعلني أصل للجمهور الذي اقتنع بأعمالي وعضدني بكل ما أنتجه فقبل كل شيء احتجت لأصل إلى القارئ بالإعلان المناسب لطبيعة ما أكتبه وأنتجه -كان هذا في البداية- ولكن بعد توالي الطبعات وانتشارها صار لديّ يقين على تقبل الجمهور القارئ للحرف وطريقة السرد التي انتهجتها، حيث إني اعتمدت العناية بالقارئ المبتدئ ليتمم قراءة الرواية دون توقف أو تأجيل.. وصار هذا أسلوبي الكتابي، وصارت ذات الرواية -لاحقًا- ومعظم أعمالي عنوان لبحوث تخرّج لكثير من الطلبة، وتُرجمت -بفضل الله- إلى عدة لغات.
- بين بطلتك ورد في ثلاثيتك «أنا قبل كل شيء – لي أنا أولًا – ورد» حكاية جمعتُ عدد صفحاتها فبلغت 608 صفحات.. وسؤالي: ما الذي لم تقله الجوهرة الرمال –بعد- مع كل الذي ناقشته: اجتماعيًا، وذاتيًا، وعاطفيًا، وأسريًا..إلخ؟ وهل استطعت ككاتبة عايشت بطلة لثلاث روايات التخلص منها حتى الآن؟
- سؤال جميل وذكي للحد الذي اعترف فيه بأنه استوقفني لنقطة مهمّة وضرورية في تجربتي التي أتعلم منها الكثير مع كل قفزة أو وقفة. وفي الحقيقة: لم أقل شيئاً بعد، رغم كل الذي قلته كتابةً وددت أن لو أصرخ بصوت أعلى وأنا أتصنع كل هذا الهدوء لأقول: «لقد عاشت بطلتي «ورد» فصول كثيرة ومعاناة لامست الجميع وحاولت أن تجد نفسها بأي طريقة كانت وانتهت حكايتها لكنها لم تخرج من ذاكرتي حتى الآن. وأظنه كان ينقصها صرخة بعمر مائتي صفحة أخرى لكنها فضلت الصمت عند نهاية أحداثها المفتوحة رغم كل شيء؛ لهذا احترمت صمتها.
- روايتك الأخيرة «ورد» الصادرة مطلع 2021م جاءت كرواية لبطلة ظلّت تقوم بدورها داخل السطور إلا أنها انتقلت في هذه الرواية لتصبح عتبة العنوان: «ورد» والبطلة، والملامح التي أطّرت غلافها.. وتساؤلي هنا: برأيكم هل يمكننا اعتماد ملامح أبطالنا في لوحة لنودعهم قرائنا؟ وهل وجدت ككاتبة في هذه اللوحة بطلتك ومخيلتك حقًا؟
- يمكنني القول بأنّ كل جزء في الغلاف جاء ليصف جزءا من ملامح «ورد» لكني أحببت الالتصاق بوجه يشبهني، وجه عليه شريط أحمر لاصق وكأن هناك جزء من الحقيقة اختفى وعليّ الاستعانة بكل من حولي من قراء وأناس للتحريّ والبحث عنه علّنا نجده معًا ولو بحياة أخرى، ولو كانت حياة متخيلة.
- روايتك «ركض الخائفين» هل يمكننا اعتبارها رواية اعتراضية كجملة اعتراضية في وسط الكلام؛ كونها وُلِدت ونُشِرت بين ثلاثيتك؟ أم هي استراحة كتابية لكسر روتين شوق القراء المتابعين لتجربتك وحنينهم الدائم لبطلتك الرئيسية «ورد»؟
- ركض الخائفين كتبتها بفترة كنت أتوق فيها للركض بعد تعرضي لحادث مروري أصابني بالعجز الذي جعلني أشعر أنني غير مرئية؛ لهذا طرأت لديّ فكرة الرواية ودسستُ بها رسالة عن أهمية العبادة الخاصة بين العبد وبين ربه، وعن الصلاة كقداسة وجودية وحياتية مشروعة للجميع ليعيشوها لا لتأديتها فحسب. اجتهدت لكتابتها بطريقة ابتكارية، مستعينة بالأسلوب الواقعي الذي انتظره مني قرائي الأعزاء بكل عمل جديد، وقد وصلت إليه وبلغتني ردود أفعالهم المبهجة والعجائبية تجاهه؛ لهذا أرى أنها من أجمل ما كتبت حتى الآن.
- إن كان إصدارك الأخير «لقد وصلت إلى وجهتك» مجموعة نصوص، فما الذي يمكننا أن نسمي به كتابك «حُب في غفوته الأخيرة»؟ حيث إنه تُرك بلا هوية! قصة، أم رسالة طويلة، أم رواية قصيرة، أم نص مفتوح للقارئ؟
- نستطيع القول عن «حب في غفوته الأخيرة» باختصار: إنه تنهيدة بعد عويل صامت؛ لهذا ومن وجهة نظري لا يمكننا في أحايين كثيرة تصنيف التنهيدة بعالم الكتابة والكتب إلا بأنها آه، أو آهة.
- كلمتك الأخيرة لهذا الحوار، وتوجيهك للكُتّاب والكاتبات المبتدئات من حيث تسويق إبداعهم، وإيصاله إلى شريحة كبرى من القراء.. وتحديدًا عندما يكون نصا بذل عليه أحدهم جهده الكبير؟
- كل ما بوسعي قوله لكل كاتب: «أنت رائع» بطريقة أو بأخرى ولكن لن يكتشفك أحد طالما لن تسعى لهذا. وأذكره بأنّ لدينا بعالمنا العربي شرائح كبيرة من القراء لا يستهان بها، وهي دومًا متعطشة لكل حرف وفكر جديد بالساحة؛ فجاهد واسعى بالوصول إليهم مهما أضناك الوصول. وأخيرًا: عليّ أن أقدّم امتناني الكبير للثقافية التي أفسحت لي هذه المساحة الثرية لأن أطلّ من خلالها إلى قرائي الذين لولاهم –بعد الله- ما كنت لأكتب أو أتذوق طعم حديثهم، ويقينهم بتجربتي التي أمنحها بأكملها لهم؛ كونهم يستحقون عناء الكتابة وعظيم المكتوب.