يمثل الأستاذ حمد القاضي رمزاً ثقافياً متفرداً. فهو يتميز بحضوره المستمر في الحراك الثقافي.
وإن مقولة الحضور تعني أن الأديب القاضي ممتلئ بالانتماء الديني ومنغمس بالوطنية. وكان كثيراً ما يردد في مقالاته وتغريداته قولَ الله تعالى {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}.
والحضور المستمر يعني المعايشة لكل التحولات الثقافية، لكنها معايشة الانتقاء لا معايشة الانبهار. لقد عايش تيار الحداثة بكل توهجه، لكنه لم ينبهر بأطروحات أربابها، ولم يقف موقف المضاد لها.
إنه يعيش في مجتمعه ويتفاعل مع تحولاته، غير مهتم بالتيارات التي تهب على الحراك الثقافي من الخارج.
إن حضور الأستاذ القاضي حضور في الوعي، فلم يكن حضوره محكوما بالمحاكاة والتقليد والمباهات بمتابعة الطارئ والجديد.
ثلاثة وجوه مشرقة تتجلى فيها شخصية الأستاذ حمد القاضي، القاضي الإنسان، القاضي المواطن، والقاضي الأديب. وكانت معرفتي بالقاضي بدأت من خلال شخصيته الأدبية. فحينما كنت طالبا في الجامعة كان أستاذي الدكتور سعد أبو الرضا، رحمه الله، يعرض بعض كتاباته التي كان ينشرها في جريدة الجزيرة، في عمود أسبوعي. كان يقدمها لنا بوصفها نموذجا للكتابة النثرية الحافلة بالشعرية لارتفاع طابعها الإبداعي.
ظلت صلتي بعمود القاضي مستمرة، وحينما تسلم رئاسة تحرير المجلة العربية بقيت حريصا على قراءة كلمته.
كانت لغته عالية الشعرية، إضافة إلى أنها مفعمة بالحس الإنساني، مسكونة بحب الحياة والاحتفاء بجمالها.
كان يستثمر اللغة ليمنح أسلوبه فردية خاصة، وكي يمرر من خلالها رؤيته المتفائلة للحياة.
كان الأستاذ القاضي، ولا يزال، يكتب من أجل حياةٍ تقدر القيم والنماذج العليا.
وحينما يكتب عن أشخاص فإنه يصطفي رجالا يجسدون قيم الرجولة والأخلاق.
لقد كتب عن حمد الجاسر وعن حسن آل الشيخ وعن غازي القصيبي، وكأنه أراد أن يقول هؤلاء هم الرجال الذين لم تلههم المناصب عن تحقيق الرجولة كما يراد لها أن تتجسد في الإنسان.
أما القاضي الإنسان فإن الأستاذ القاضي يمتلك قلبا أبيضَ نقيا تحتدم فيه مشاعر حية متوثبة يمتزج فيها حب الوطن وحب الإنسان.
روح مشرئبة متسامية ترتفع عن الأحقاد وعن هم العداوات، فكسب حب الجميع وتقدير المجتمع بكل أطيافه.
إن الأستاذ القاضي إنسان مفعم بحب الحياة مفرط بالاحتفاء بها، يغمره شعور متوهج ومنصهر بالعالم إلى حد التصالح مع الجميع.
إذا جاز لنا أن نبحث في أدبياتنا عن نظير الأستاذ القاضي فإننا سنجد أنه يشبه فيلسوف الأخلاق «ابن مسكويه» الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فبنهما تشابه؛ لكن كانت الأخلاق عند ابن مسكويه تمثل اتجاها من اتجاهات الفلسفة، أما عند القاضي فإنها سجية أكثر من أنها نظرية.
فإذا كان ابن مسكويه الذي تعاطى الفلسفة الأخلاقية قبل نحو ألف سنة كان يرى أن الانخراط في المجتمع والارتباط مع أفراده بعلاقة مثالية يحقق صفة الكمال الإنساني، فإن الأستاذ القاضي يدعو في كتاباته وتغريداته إلى أن نصالح أنفسنا مع الواقع، وأن نفهم الطبيعة الحقيقية لمشاعرنا، وأن السعادة تنبع من داخل أنفسنا، وليست من المظاهر الخارجية التي جلبتها الحضارة.
ويتفق الاثنان بأنهما يجمعان بين الفكر المجرد والملاحظات العملية. لذلك كانت رؤاهم الأخلاقية مؤثرة.
ولا يعني ذلك أن الأستاذ القاضي كان مهتما بالفلسفة الإنسانية، أو بمسكوية بصفة خاصة، وإنما أردت أن أشخص شخصية أبي بدر من خلال التجربة الحياتية التي تنتصر للإنسان مدفوعة بوعي فكري ويقظة ضمير. إن الإنسان يقف على تخوم الفلسفة حينما يكون اهتمامه بقضية من قضاياها شكلا من أشكال اختبار الوعي والاهتمام بالإنسان.
إن الأستاذ القاضي تجاوز وجوده التاريخي، وكونه إنسانا ينتمي إلى مجتمع يمتلك إرثا تاريخيا وأخلاقيا، وأصبح نموذجا يجسد التجربة الأخلاقية في أفق اجتماعي يتمثل القدوات ويحاكيها.
فما أحوج مجتمعنا إلى هذا النموذج الإنساني الرفيع.
** **
- د.حمد عبد العزيز السويلم