كيف بوسع بضعة أسطر أن تحتويك، وأنت المستعصي على دائرة الاحتواء، العالمُ خارجنا (يهوي إلى خارج الهوى، وإن لم نقف ضدًا له، لا نقف معه)، في القوافيّ تتجلى المعجزات، ربما يولد من غير أبٍ ألفُ مسيح! والقصيدة قد تتجلى إذا زارها قارئٌ، مثلما تتجلّى البحيرة إن زارها في المساء القمر.
الصداقة ما بيننا شجر شامخ في مدار الحياة، ونحن غصون الوفاء النضيرة، وفي الشعر يغدو الجبّ أوسعَ مدخلاً، ويصير يوسف في القصيدة أجملا، فالشعر لغز الله، حيث جوابه لا أن يجاب وإنما أن يُسألا، فمزّق حجابَ النص مزقه فخلف النصّ نصُّ، من أين تبتدئ المواجع، بغداد عاصمة السكينة والسلام، عشرون عامًا بيننا وقفت فمدّ الحبّ زانته، وأسرع للوثوب على الزمن، وهنا المدينة لا تضيف لجوهرك معنىً، به يتجدد التكوين، فالحياة متى تكررْ نفسها، تصداْ بروح المبدع الفنّانِ.
وها هي دودة هذا الزمن القارضِ تنخر أشجار العمر، ويا ربي لا تترك في العتمة قلبي، تعصرني الحتمياتُ إلى آخرِ مضغةِ روحي، وفراغ العالم ذو أنياب. نبتت بقلب الأبجدية قُرحةٌ وأصيب فارسها القديم بصلبه.
السعادة طفلةٌ في العمق صادقةٌ كبستانٍ يصرّح بالأزاهر والقتاد، وتكاد تشبهك السعادة، لو تجسّدت السعادة في العباد. وتفلت من مضارب نجدٍ، فلا تلاقيك إلا غواية هذي المدينة الأحساء. ضاع الحساب وها هم الشعراء ما زالوا على ثقةٍ بأن الأرض أجملُ في الأغاني. فوضاك/ خارطتك التي تهتدي بها لصفاء روحك وانسجام معانيك، وأنت برغم تجاوزك الخمسين من التشرد، ما اتفقتَ مع الطريق!
ولأنك جلجامش السومريّ القديم، وفيك ما فيه من ولع بالخلود، يصبح الشعر أنكيدو توأم روحك الصديق، تصارع وحوش الإنس والحيوان، حتى تتشبث بخلود الحرف ويغويك المجاز، فتكون مرآةً لروحك القلقة، ولسان حالك يقول: لا يعرف الناس مني غيرَ حنجرة، يا ليتهم عرفوا ما خلف حنجرتي!
ركض الزمان إليك، وأنت ما اكتهلت خطاك وإنما في داخلك اكتهل الزمان. ومذ خرجت للقصيدة لم تعدْ!
مستروحًا بالجسد الأنثويّ تصوغ من كفيك مفتاحًا لكوكبه الشهيّ. ولا شيء أجمل مثل الحب يصلح لاختبار عناصر التكوين في غمرات زحف العمر للخمسين. وما أوسع الأرض حين نحدّق فيها من عدسات الغرام.
يا شاعر التكوين يا ابن الجملة الأولى، يا صاحب اللغة/ السفرجل، الشعر مبدؤه الغواية، كم وردةٍ سقطت على خدّ الوسادة حينما انتفض الكلام، فلملم الشوق البهيّ، وخذ لسيدة الكنايات العميقة أبجدياتِ الغواية ورْدَ أغنيةٍ، وأمطرنا أسىً. بحْ بالذي في عمق ذاتك، جدِّد التذكار من زمن النبوءة للتفاصيل البعيدة.
ولك المحبة كلها.. ولك القصيدة!
قدمها الناقد الدكتور منير فوزي في الأمسية التي أقامها (أدبي الجوف) يوم الجمعة 1443/8/22هـ
** **
- أ. د. منير فوزي