د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يبدو أن الثقافة والاستهلاك يرتبطان ارتباطاً وثيقاً أبعد مما هو معروف لدى كثير من الدارسين الذين يرون أن ثقافة الاستهلاك قد شاعت في العصر الحديث، فأصبح نمط حياة الإنسان يعتمد على الاستهلاك، فهو لا يقوم بزراعة ما يأكله كما كان يفعل في القديم، ولا يقوم بخياطة ما يلبس، ولا صناعة ما يستعمل، فكل هذه المنتجات اليومية يأخذها من المحلات القريبة من منزله دون عناء أو تعب بفضل ما يدر عليه عمله المكتبي من دخل.
إضافة إلى أن الاستهلاك يغطي جوانب أخرى من حياته، فهو يستهلك كثيراً من المواد في حياته اليومية، سواء في الملابس، أو في الأثاث، أو في المأكل والمشرب مع ما يستلزمه ذلك من أوعية للحفظ، والتخزين، والحمل والتقديم، والتنظيف، والإعداد، ما يجعل الاستهلاك الثقافة السائدة في المجتمع أي استهلاك المواد الطبيعية والمواد المصنوعة منها دون العناية بالإنتاج.
وإذا كان هذا القول يحمل نقيضه في ذاته، وذلك أن هذا الذي يستهلك لا بد له ما يستهلكه، وهذا المستهلك - إن صح التعبير - لا بد له من منتج، وهذا يعني أنه لا بد من إنتاج موازٍ لهذا الاستهلاك حتى تستمر عملية الاستهلاك، وإذا كانت الحالة هذه فإن القول بالمجتمعات الاستهلاكية لا يصح لأنها مستهلكة في الوقت الذي تكون فيه منتجة.
وقد ينطبق هذا القول على بعض المجتمعات التي تستهلك دون أن تنتج، إلا أن القول نفسه ينطبق هنا، فإذا لم يكن لديها ما تنتجه بصورة من الصور فلن تتمكن من الاستهلاك. وهذا يعني أنها لا بد أن تكون منتجة بحال ومستهلكة بأخرى، وإلا فلن تتمكن من أن تكون مستهلكة من الأساس.
ومع اشتهار هذا القول، فإنني سأتحدث عن موضوع آخر يتصل بهذه القضية بالذات، وهي وفرة الإنتاج المؤدي إلى الاستهلاك في شئون الحياة، وذلك أنه أدى بصورة من الصور إلى انخفاض التكلفة، ومكن من تقديم المنتجات بأسعار زهيدة مكن بعد ذلك من نشر هذه المنتجات بصورة كبيرة، وأدى بعد ذلك إلى تغير أسلوب الحياة حين أصبحت المنتجات بتناول الجميع.
هذه المقدمة قد تكون طبيعية إلا أن الذي ليس طبيعياً أن أسلوب الحياة قد تبدل بفضل هذه المنتجات التي كانت قد عملت بالأساس بصورة متقنة جمعت فيها مهارة الصنع مع مراعاة نظريات الجمال والفن وفق ما يسمى الفاين آرت Fine Art وهو الفن الذي يعنى بتصميم الأثاث، والرياش وأجزاء المنزل، بل أصبح لكل جزء من أجزاء المنزل والاستعمال اليومي تخصصاً علمياً خاصاً به يوظف نظريات الهندسة والرياضيات والفن حتى تأتي بأشكال ومقاسات وألوان، وتصاميم متباينة مختلفة تفتق من الذوق، والنظر، وتفتح آفاق التأمل والتفكير، وتكشف ضروباً من الجمال والمتعة غير مسبوق.
فأصبح لتصاميم المنازل تخصصات خاصة، وأصبح للديكور تخصصات خاصة كذلك، ولأعمال البناء، والمطابخ وأدواته تخصصات خاصة تجعل المنازل غاية في الجمال والأناقة، وتبعث على الحبور والسعادة.
هذه الأدوات في مجموعها نظراً لما بذل فيها من جهد، ووقت، ومواد خام عالية الجودة وغالية الثمن، عزيزة المنال، لا يمكن أن يحصل عليها إلا من يستطيع أن يملك القدرة المادية على ذلك وهم قليل، ما جعل الحصول على هذه المواد سمة خاصة للقادرين من ذوي الجاه والسلطان، واليسار ما جعلها حكراً عليهم، وسمة تميزهم عن سواهم.
وقد لا يكون لهذا الحديث صلة بالاستهلاك، حيث إن البيوت منذ العصور القديمة تحفل بالمعمار، وغالي الأثاث والرياش، وتمتلئ بآثار الفنانين سواء أكانت هذه الفنون لوحات أم تماثيل ومنحوتات.
إلا أن الجديد في الموضوع، هو أنه في عصر الاستهلاك، والتطور التكنولوجي قامت الأمم المنتجة بالبحث عن وسائل تمكنها من صناعة تلك المصنوعات الفاخرة بمواد أولية بسيطة (رخيصة)، تجعل من الإمكان إنتاجها بتكاليف أقل، وبيعها كذلك بأسعار معقولة في متناول الجميع.
ولا يتوقف الأمر عند الأثاث أو الديكور ونحوه بل تجاوز ذلك إلى الآثار الفنية، والقطع المنحوتة الغالية حيث أصبح من الممكن إنتاج قطع على منوالها أو ما يمكن أن يسمى نسخاً منها، لا تختلف عنها بصورة كبيرة ويمكن أن تحل محلها لتزين منازل الفقراء وضعاف الحال.
هذه النسخ وتلك القطع تدخل فيما يسميه الناس بثنائية «الأصلي» و»التقليد»، ويقصدون به أن تلك القطع الأصلية باهظة الثمن قد صنع على منوالها نسخ أخرى تشبهها أو على منوالها، وإن كانت لا تتميز بما تتميز به الأولى من مواد خام، أو من إتقان وحذق، أو جودة تصميم ودقته ونحو ذلك. ونظراً لهذا السبب، فإن تكلفتها منخفضة، ما يجعلها في متناول الإنسان البسيط.
الأمر المهم في هذا أن هذه المواد المنتجة أدت إلى تحسين بيوت محدودي الدخل، وأسهمت في تحسين نمط عيشهم، ومعاشهم، وكسرت احتكار الأغنياء للفنون والآداب، وللجميل من الأثاث والديكور، وبهذا قد أشاعت نوعاً من المساواة بين الناس باقتنائهم الفنون نفسها، وبرغبتهم بتذوق الفنون وإدراك قيمتها، وبقدرتهم على تحسين بيوتهم فيها حتى ولو كانت نسخاً مقلدة لا تمت إلى الأصلية بصلة.
الأمر المهم أنها بسعرها المحدود الثمن، أصبحت قابلة للتبديل بين الوقت والآخر دون أن يكون هناك تكلفة كبيرة على أصحاب المنازل، ما يجعلها محل رغبة وقبول لدى كثير من الناس حتى القادرين منهم، الذين لا يريدون أن تتحول بيوتهم قطعة من الفن الكلاسيكي النادر، بقدر ما يريدون أن تكون منازلهم وفق أحدث الطرز في الديكور والأثاث، ما يجعلهم يضطرون إلى تجديد منازلهم بين الحين والحين، فيبحثون عما يساعدهم في تحقيق ذلك دون تكلفة عالية.
هذه الحالة جعلت الصناعة «التقليد» ذات أهمية لدى الناس، تنافس الصناعة الأصلية، ليس بوصفها دليلاً على عدم الملاءة، وإنما بوصفها تتوافر على صفات تجعلها عملية، وصالحة للاستعمال في حدود زمان ومكان معينين تنتهي قيمتها بانتهاء هذه الحدود، ويمكن تعويضها بسواها دون مشقة أو عناء.
وهذا يعني أن هذه «التقليد» قد بدأت تحقق وجوداً مستقلاً عن الوجود الأصلي، ليس بوصفها نسخاً مشوهة، أو ناقصة التكوين، وإنما بوصفها آثاراً فنية مستقلة، وأن الاختلاف في تكوينها عن الأصل يمنحها قدرة على الدخول إلى عالم الفن بوصفها قطعاً أصلية قائمة بذاتها.
ونحن هنا لا نتكلم عن القيمة المادية، وإنما نتحدث عن القيمة المعنوية بوصف هذه القطع المقلدة بما تختلف به عن الأصول بالألوان أو المواد الخام، أو بالاختلاف بالتشكيل قد حققت جماهيرية وحضوراً في الحياة اليومية كما تحقق الفنون المعتبرة بالإضافة إلى ما تقدمه من إمكانيات بسبب انخفاض تكلفتها.