خالد محمد الدوس
اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه ، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه.
وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية.
ومن أهم العلماء والمنظرين والباحثين في علم الاجتماع العالم فرنياند تونيز مؤسس علم الاجتماع الحديث في ألمانيا.. وأحد المساهمين البارزين في إرساء النظريات الاجتماعية والدراسات الميدانية في هذا الميدان الخصب.
ولد العالم الشهير فرديناند تونيز في مقاطعه شمال ألمانيا بلدة ازنيشتات عام 1855 لأسرة بسيطة قروية كانت تعمل في الزراعة، وكان عالم الاجتماع الوحيد من أبناء جيله الذي جاء من الريف ليصبح علم بارز في علم الاجتماع, حيث درس فقه اللغة وقد أثر هذا النوع من التعليم في اتجاهاته المعرفية وميوله الفكرية لدراسة الفلسفة الاجتماعية والعلوم الاجتماعية والقانون الطبيعي, وقد تأثر بالعديد من العلماء خاصة علماء المجتمع الاقتصاد.. مثل اوجست كونت وإميل دوركهايم وسبنسر وهيجل.. كما تأثر بكتابات العالم توماس هوبز كانت حصيلة هذه المعطيات بناء فكر اجتماعي رصين ترك منجزات علمية وأبحاث نظرية وإسهامات بارزة في علم الاجتماع مازالت تدرس في الجامعات العالمية، بعد أن أصبحت النظريات الاجتماعية من وجهة نظر تونيز تعبيرات عن الإرادة الاجتماعية وانعكاس للظروف الاجتماعية الواقعية.
بعد تخرجه من المدرسة الثانوية في هوسوم درس في جامعة بون وجامعة هومبولت الألمانية وأكمل تعليمه العالي في (جامعة لايبتزغ) التي تعد ثاني أقدم جامعات ألمانيا تأسيساً, وقد أشرف عليه في مرحلة الدكتوراه العالم فيلهلم فونت, وارنست انجل وبعد تخرجه من قسم الاجتماع وحصوله على الدكتوراه عام 1877م عين أستاذا في (جامعة كيل) الألمانية لتبدأ رحلة أبحاثه المتميزة ودراساته العلمية الثرية في ميدان علم الاجتماع, حيث كانت دراساته متعددة ومتشعبة غطت كثيرا من المجالات الاجتماعية (بحثاً وفكراً وتطبيقاً), ويعتبر المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع في ألمانيا.. وقد ألف كتباً في تراث علم الاجتماع كانت لها أصداء واسعة في ألمانيا وخارجها ومنها كتاب الجماعة المحلية والمجتمع العام), وكتابه مدخل إلى علم الاجتماع وكتاب (روح العصر).. كما كانت له إسهامات فاعلة في بحوثه التطبيقية عندما ألف في النظرية الاجتماعية ولم يعتبرها جزءاً منفصلاً عن البحث الاجتماعي, بل اعتبر أن كل منهما مكمل للآخر, الأمر الذي دعاه إلى تقسيم علم الاجتماع إلى ثلاثة فروع: الأول علم الاجتماع النظري, والثاني علم الاجتماع التطبيقي, والثالث علم الاجتماع التجريبي, وهذه الفروع الثلاث تمثل وحدة العلم التي قامت على دعائمها وقواعدها كافة الاتجاهات الاجتماعية كموضوع للدراسة السوسيولوجية والبحث والاستقراء والتحليل. كان (تونيز) مهتما بالنظريات العقلية وما يقابلها من النظريات العاطفية في القانون والسياسة والمجتمع ثم اتجه إلى صياغة مفهومين تحليليين متقابلين هما: الجماعة المحلية والمجتمع العام على أساس مفهومين متقابلين عن الإرادة الإنسانية فهي أما أن تكون عاطفية وهي صفة الجماعة المحلية، أو تكون عقلية وهي صفة المجتمع العام. ويقصد بالإرادة العاطفية إنها الإرادة الإنسانية النابعة (تلقائياً) من الطبيعة البشرية, من مشاعر إنسانية ومشاركة وجدانية، وبالتالي فهي صفة الجماعة المحلية, وأما الإرادة العقلية فهي الإرادة الإنسانية التي تظهر في استجابة لحاجات المجتمع ويرى أنه حين تكبر حجم الجماعة المحلية وتتسع دائرتها إلى مجتمع كبير يضم عدة جماعات ومن ثم تنشأ حاجات اجتماعية جديدة ووظائف اجتماعية جديدة ووحدات ومنظمات, وبالتالي تطور الإرادة العاطفية إلى إرادة عقلية.. وهكذا تتحول الجماعة المحلية إلى مجتمع عام يقوم على أساس تنظيم إرادي.
وقد تميز كتابه عن (المجتمع المحلي والمجتمع العام) بقوة التفكير وجمال الأسلوب والمنهجية النظرية الرصينة التي تظم بين دفتيه الأسُس النفسية والاجتماعية.. فنال - هذا العالم الفذ - شهرة واسعة جعلتها علامة بارزة وقدرة متميزة في نمو علم الاجتماع الأوروبي.. ومن أهم المنظرين لتطور المجتمع الغربي الحديث.. ليشكل مع العلماء ماكس فيبر وجورج سيمل الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع الألماني الكلاسيكي بعد أن شارك في تأسيس الجمعية الألمانية لعلم الاجتماع جنباً إلى جنب مع ماكس فيبر وجورج سيمل والعديد من المؤسسين.. وكان رئيسا للجمعية أكثر من عقدين من الزمن وتحديداً من عام 1909 حتى عام 1933 بعد ذلك أطيح به لانتقاده النازيين وأبعد عن التدريس في الجامعة.
قسم رائد علم الاجتماع في ألمانيا (تونيز) العلاقات الاجتماعية إلى أولا: علاقات إيجابية وهي تؤدي إلى تكامل المجتمع واستقراره ووحدة أهدافه, ثانياً: علاقات سلبية وهي التي تؤدي إلى الصراع والاختلاف وتفكك المجتمع وانهياره. وفي كتابه الشهير (روح العصر الحاضر) عبر هذا العالم عن استيائه من التطور الحديث الذي أدى إلى نشأة المجتمع العام، حيث تسود العلاقات الاجتماعية التقديرية والمادية والانتهازية والمصالح الذاتية التي حلت محل العلاقات العاطفية والروحية والمشاركات الوجدانية.. وكأنه يصور الواقع الاجتماعي في عالمنا اليوم في ظل رياح التغيرات الاجتماعية والتحولات الثقافية والتقلبات الاقتصادية..!!
*وأمام هذه الأبحاث النظرية والدراسات التطبيقية صنّف عالم الاجتماع (تونيز) أحد رواد علم الاجتماع الألماني واحد أعمق رجال المعرفة تحليلا وتفسيرا للظواهر الاجتماعية والتغير الاجتماعي.. والأكثر من ذاع صيته في النصف الأول من القرن الفائت خاصة بعد مؤلفه الشهير (الجماعة المحلية والمجتمع العام) الذي نشر عام 1877م بعد أن قدم هذا الكتاب وصفا نموذجيا لنوعين من الروابط الاجتماعية يمثلان وجهي الحياة الاجتماعية.
توفي العالم الفذ فرديناند تونيز عام 1936م عن عمر يناهز الـ81 عاما, وقد ترك بصمات واضحة وإسهامات علمية ومنجزات غنية في تراث علم الاجتماع الأصيل بعد أن أثرّت أفكاره بعمق على النظرية الاجتماعية والبحث الاجتماعي.. خلال مسيرته داخل الصروح الأكاديمية التي امتدت لأكثر من أربعة عقود من الزمن.. بعد أن لعب دوراً بارزاً وحراكاً فاعلاً في تطوير مدرسة علم الاجتماع في ألمانيا في المجالات النظرية والتطبيقية.