كان بين عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي (رحمهما الله) معارك أدبية مشهودة حمِي فيها الوطيس واشتد الأُوار في عشرينات القرن المنصرم وكان كل منهما يُصلي فيها على خصمه نارا تلظّى.
والحق أنه لا يُعرف على التحديد ما أدار رحى الحرب من أسباب بين الأديبين المحجلين ولكأنه «صراع العمالقة» في زمان أدبر وولى ولا كان هو «صراع العمالقة» مما يُصّدع به الإعلام «والفن» الرخص أدمغتنا من مسلسلات عصرية!
ربما نهج الرافعي نهجا هو أقرب في بعض وسائله إلى السباب المقذع منه إلى النقد اللاذع فحسب، إذ وصف العقاد من بين ما وصف من قول شائن معيب، وصفه بالشاعر أو «المتشاعر المراحيضي» (نسبة إلى «المرحاض»!
بيد أن من الكُتّاب من رأى في نقد الرافعي للعقاد منهاجا علميا صحيحا وافيا وكان الأحرى به والأجدر أن يُعرِض عن البذاءة والهجاء وفحش القول!
وفي هذا المقال تمثلت ببعض ما جاء من الرافعي بكتابه (على السفود) في نقد أشعار للعقاد وقصرت المبحث على ما عنّ لي من شواهد تشهد على براعة الرافعي في العرض النقدي وقد تملك فيه ناصية البيان صادرا عن ثقافة ثرّة بالشعر العربي واستظهار له وكأنما يسحّ الكلام سحّا يصبه صبا يتحدر عنه سلسالا مسترسلا ويقع بعده في مظِنة القارئ أن أسقط بيدي العقاد لا يستطيع عنه دفعا ولا ردا.
أول ما قال فيه بعد إذ أُخرج من جريدة «البلاغ» التي كان يعمل بها «رأى (يقصد العقاد) حيطان الشوارع نفسها تكاد تشتمه وأيقن أنه أهون وأسقط من أن يعبأ به أحد من الأدباء» ...»وقد نطقت به أفعاله في آلام لغة وأخس طبيعة»...!
وكثيرا ما يعود على لسان الرافعي تهمة غريمه بـ»اللصوصية» التي لا تكاد تنفصل عن شخصه! على سبيل المثال، يعرض لأسماء كتبه «ساعات بين الكتب»، «مراجعات من الأدب والفنون»، «مطالعات في الكتب والحياة».. يقول فيها جميعا «ما هذا؟ هل هي إلا لصوصية أدبية تسمي نفسها من حيث لا يشعر اللص...»!
ثم يكيل له سهام النقد فيما خص اللغة والبيان إذ هو فيهما «ساقط»، فللعربية سرها في تركيبها وبيانها فإذا أهملناه صارت العربية (كلام جرائد) يصلح لشيء ولا يصلح لشيء آخر....»
وهو إذ سلم بأن للعقاد بعض أبيات حسنة فمنها «الألوف السخيفة المخزية التي لا قيمة لها لا في المعنى ولا في الفن ولا في البيان...» وهذا برأيه يدل على أن الأبيات الحسنة «مسروقة جاءت من قريحة أخرى وطبيعة غير هذه التي تعصف بالغبار والأقذار....»!
ننتقل بكم في الحال إلى بضعة من شواهد نقد فيها الرافعي شعر العقاد كما دلّ على نظرته المتغلغلة في الشعر العربي والحق أن العقاد - مثله مثل «عميد الأدب العربي» طه حسين - قد سلم إذ تنفس عمره دهرا بعد الرافعي بأنه ليس من شعراء العربية المفلقين، ما جعله يُعرض عن قرض الشعر لغيره من شعراء العربية الصناديد...
يسوق الرافعي قطعة للعقاد معربة عن «شكسبير»:
تهُد قوى الثبت المريرة من جوى
فتعرّقه إلا مشاشا وأعظما
يعقب عليها الرافعي بقوله (فسّر العقاد «تُعرّقه» بقوله: عرّق اللحم أي كشطه وأبقى العظام» فإذا كان هكذا فمعنى البيت «تكشط اللحم وتبقي العظام إلا العظام!» أهذا بيان أم هذيان؟).
يسوق بعدها وصف العقاد لطائر العقاب وقد هرِم:
لعينيك يا شيخ الطيور مهابة
يفر بُغاث الطير عنها ويُهزم
(بغاث الطير ضعافها وما لا يصاد منها، ومنه قولهم «إن البغاث بأرضنا يستنسر»، يريدون أن البغاث وهو ذليل عاجز لو نزل بأرضنا لانقلب نسرا، فأي قيمة للمهابة التي تفر منها ضعاف الطير؟ أوليس المعني الشعري الطبيعي هو القائل:
وكل باز يمسه هرَم
تخري على رأسه العصافير
«تخري» (من خِراء) هنا بمعنى «تزرق» عند الطيور..... فانظر أي اضطراب وأي حمق وأي سخافة؟).
وفي موضع آخر من ديوان العقاد يُشهد الرافعي القارئ على «سخف العقاد ولؤم شعره وركاكة بيانه المتهدم وأنه يمشي في الشعر على رجلين من الخشب!».
ثم يسوق من بين ما ساق من شاهد زعْم «المتشاعر العقاد أنه يعارض ابن الرومي ولعمري لو بصق ابن الرومي لغرق العقاد في بصقته» يا له من لفظ مقذع قاسٍ يكاد يفوق فحش الكلام!
ينشد العقاد من بين ما ينشد معارضا ابن الرومي:
نفاه عن عرس الدنيا شواغله
إن الحداد عن الأعراس شغلان
(من أي لغة جاء بـ»شغلان»؟ أمن قول العامة:»عاملها شغلانة»؟)
ثم: (ومن مضحكات هذه القصيدة:
بالغصن شبهه من ليس يعرفه
وإنما هو للرائين بستان
وهل نما قط في غصن على شجر
آس وورد ونسرين وسوسان؟
هذا الحبيب أشجار مختلفة أما تشبيهه قدّه بالغصن فخطأ في رأي المتشاعر ويجب أن يشبه قدّه بـ»الحقل! أليس هذا الخلط أسقط ما يمكن أن تعثر عليه في أسخف الشعر وفي أحط الأزمنة؟ ولكن العقاد مجدد! «مجدد إيه وهباب إيه؟» ...).
ثم يقارن بين النص وبين ما يزعم الرافعي من أنه سُرق أصله لابن الرومي ويخلص إلى ما أبدع فيه شاعر العربية المفلق ابن الرومي من جمال التصوير وحسن الديباجة بينما أساء «المغفل» في صنعته إذ جعل القدّ أشجارا مختلفة الفصائل ولو كانت القافية لامية لحسبناه يجعلها بصلا وثوما وكراثا وفجلا، فيقول هكذا:
وهل نما قط في غصن على شجر
فجل وثوم وكرات وأبصال
وثمة دليل آخر على أنه «مغفل» إذ ينشد:
والشعر من نَفَس الرحمن مقتبَس
والشاعر الفذ بين الناس رحمن
ولكنه لما كان هذا «الدعي الزنيم» يدعي لنفسه أنه شاعر فذ فكأنه في رأي نفسه إله!
(أغيثوه بطبيب مستشفى المجانين أيها الناس)!
ثم من (هذه القصيدة الحمقاء):
قالوا ابن آدم من قرد فقلت لهم
كلا ولكنه في النجر (الأصل) ثعبان
يعقب عليها الرافعي: (هذا رد من العقاد على «داروين» ولعله ما نبهه إلى هذا المعنى إلا أنه هو كالثعبان في أذاه وطوله، ولو كانت القافية حاء لقال إنه «تمساح»!).
ولا نبلغ خاتمة الفصل إلا ونراه قد زاد من الإقذاع قدرا:
يسوق للعقاد هذا البيت:
شر ما يلقى الفتى أجل
ضُيّق عن واسع الأمل
ويعقب الرافعي، انظر غباوة اللص لتعرف أنه لص، وقابل هذا البيت بقول القائل:
أملي من دونه أجلي
فمتى أفضي إلى أملي؟
بربك أليس هذا هو البيان وكلام العقاد هو الهذيان؟
أعرفت أن هذا السخيف يسرق من الجوهري ويبيع في سوق «الكانتو»؟
أرأيت أيها المتابع الصابر المصابر ممن بلغ نهاية المقال كم كانت المعركة حامية الوطيس شديدة الأوار على أن مسألة السرقات في الشعر (كما في النثر) من الموضوعات ذات الشجون والمتفرعات العدة لا يسعنا هنا إلا أن نوجزها حق الإيجاز وقد تكون هي مادة بذاتها لمؤلَف وافٍ يخصص لها، بيد أن المقالة هنا قُصد بها العرض لعملاقين من عمالقة الأدب والشعر كل بأسلوبه وانتحاءات فكره ووسيلته التي يقبل بها على قضايا عصره الكبرى.
وفي الختام رحمهما الله فقد أثروا الأدب العربي بروائع لن تتكرر..
** **
- دخيل الشمراني