ليس الفن وليد الصدفة المطلقة، فهو نتاج التجربة الإنسانية الثقافية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى غير ذلك من الأصعدة التي تجري فيها ومن خلالها التجربة الإنسانية، ولعل أكثر من يخوض تلك التجارب هم المبدعون والفنانون.
لقد حفّزت تجارب الفنان فيصل الخديدي على طول مسيرته الفنية والثقافية تعبيره نحو منتجه في معرضه الحالي «حديث النوافذ» فتجاربه السابقة -وعلى سبيل المثال- معرض ثمة ما يستحق والذي كان خطاباً صادراً منه إلى الآخر في إطار سيسيولوجي، حيث هناك حبس الفنان الصورة وحنطها في لحظة مكانية وزمانية معينة، ليترك للآخر فرصة النظر بتمعن إلى ما تستحقه تلك المرئيات وما تحمله من معان فيزيائية وميتافيزيقية، بينما في هذا المعرض اختلفت زاوية الخطاب فقد انكفأ الفنان لينظر إلى نفسه أولاً، يحمله إلى ذلك النظر في تقدير الذات، وكيف هي صورة الذات في نفس الشخص وفي أعين الآخر، مستلهماً ذلك من «نافذة جوهاري» «Johari Window» ليبدع نصوصاً بصرية ذات خطاب تشكيلي أستطيع أن أطلق عليه خطاباً تشكيلياً «فرويدياً» نسبة إلى (Sigmund Freud).
معرض حديث النوافذ هو بالإضافة إلى كونه خطاباً تشكيلياً هو خطاب نفسي، ونفسي اجتماعي، فمن خلال تلك الأعمال يحاول الخديدي نقل فكرة نظرية (جوزيف لوفت، وهارينجتون انجهام) حول فهم العلاقة بين الإنسان ونفسه وبين الإنسان والمجتمع من خلال نص بصري قد عاشه الفنان بنفسه، فقد استجلب الفنان تلك النوافذ التي عاشها منذ طفولته وحتى الآن، وهو يقيم حواراً مع تلك النوافذ وقد أنسنها بطريقة يجد فيها المشاهد أنها تحمل حروفاً وعبارات من تلك الحوارات، فالنوافذ هنا ما هي إلا نوافذ لرؤية الذات عن قرب، رؤية الذات من داخلها ورؤية الذات من قبل الآخر المتمثل في المجتمع المحيط.
استلهم الخديدي من نافذة «جوهاري» ذات الأربعة أقطاب محاوره البصرية الأربعة في معرضه الحالي، معبراً عن كل قطب بنوافذ تشكيلية أبدع فيها كعادته، فهو يمتلك أدوات الفنان المحترف، ورؤية المثقف والناقد، قام على صياغتها بصياغات حداثية لا تخرج عن إطار التاريخ والثقافة المحلية.
نجد في أعمال حديث النوافذ ذاكرة خاصة للفنان، يعرف فيها ذاته معرفة بعيدة الحد فهو في تلك الأعمال يحفر ذاكرته بخطوط عربية قاعدية في تشكيل خطي مبدع، مستخدماً رصانة الخامة وأصالة الخشب الطبيعي في تأكيد تلك الذاكرة، ويسمّر فيها بقايا من مقابض وعرى لنوافذ قديمة في دلالة على وضوح الفكرة وأصالة المعنى، حاملاً بذلك معنى وضوح الذات في نفسها ووضوح الذات عند الآخر.
ينقل الفنان فيصل الخديدي المشاهد إلى نصوص أخرى يستلهم فيها الإمكانيات الوظيفية لشرائح النوافذ الخشبية والتي كانت تسمح لمن داخل المنزل أن ينظر إلى من في الخارج دون رؤية هذا الثاني له، يستلهم من ذلك فكرته حول معرفة الذات المخفية أو منطقة القناع، والتي يكون الشخص على دراية بذاته وبصفاتها، ولكن في الوقت نفسه لا يعرفها المجتمع الذي يحيط به، وهي صياغة تشكيلية ذكية، تحمل تقنيات حداثية تتمثَّل في إبدال خامات حديثة بتلك القديمة ودمج الإضاءة والتشكيل والحفر على الأكريليك.
يعبر الفنان عن قطب ثالث من أقطاب «جوهاري»بصياغة تشكيلية إبداعية، تتمثَّل في عرض أشبه بحوائط ونوافذ المنزل من الداخل وكأنه يكشف عن ذاته للآخر دون معرفة لذاته من ذاته، وهنا يستلهم الفنان عناصر هذه الأعمال من الطرز المعمارية القديمة في بيئته، حملت هذه الأعمال صياغات تشكيلية ومزيج بصري تاريخي وحداثي في نفس الوقت، فالألوان التي تنوّعت بين الأبيض، والأزرق السماوي، والوردي والتي استجلبها الفنان من تاريخ العمارة المحلية، تؤكّد على الجانب التاريخي، أما الصياغات الحداثية فقد تمثلت في الفكرة أولاً، ثم في الخلط بين الخامات كإدخال خامة الأكريليك والتشكيل عليها ثانياً، ومماهاة تلك الخامات ببعضها.
إن ما يؤكد حداثية الرؤية لدى الخديدي هو تمثلات نظرية التلقي في عمله ذو النافذة المعلقة، حيث جعل المتلقي جزء من تكوين منتجه الفني وجزء من إبراز تجربته الفنية، وهو يواجه تلك النافذة المعلقة ويكمل الصورة البصرية للعمل، ليعطي فرصة لتطغى سلطة المتلقي على سلطة العمل وسلطة الفنان، ليمثّل بذلك العمل محاولة كشف الذات وصفاتها المحتجبة عن النفس ذاتها، وعن الآخر على حدٍ سواء.
لا يبتعد الفنان فيصل الخديدي عن الإنسان في جميع أعماله، وانجازاته التشكيلية، ولكنه لا يرصد الإنسان بصورته المباشرة والبسيطة، ولذلك لا يعبر عنه بشكل بسيط وسطحي، وإنما يتناول الإنسان من منظور فلسفي فيعبر عن ذلك بمستوى مقارب من تلك الفلسفة، فهو عندما يعبر يفلسف ذلك التعبير، ولا أدل من ذلك إلا ما نشاهده في حديث النوافذ، فقد نجح الخديدي في التقاط نظرية نفسية ونفسية اجتماعية لتكون مصدرا غنيا وجاذبا للمتلقي، طرح من خلال مكونات تلك النظرية نصوصاً بصرية حداثية، تتناسب والمشهد الفني المحلي والعالمي، تأخذ المشاهد إلى أبعاد نفسية وتشكيلية في آن واحد.
** **
أ.د. عبد الله دخيل الله الثقفي - أكاديمي سعودي