تعلمنا من أساتذتنا أن قول أبي العتاهية:
مات الخليفة أيها الثقلان
فكأنني أفطرت في رمضان
أنموذج للشعر السخيف، فالشاعر لم يوفق حين أراد التعبير عن أسفه لموت الخليفة، وشبَّهه بأسف من أفطر عامدا في رمضان، كما عد بعضهم ذلك دليلا على تعظيم حرمة رمضان، وجريمة الإفطار في نهاره. لكن الدكتور محمد الكفراوي يذهب مذهبا بعيدا، حيث يرى أن هذا تعبير من الشاعر الماكر عن فرحه بموت الخليفة المهدي، كما يفرح الصائم عند إفطاره، حين تغيب الشمس، أو يوم عيده.
فما الذي بين أبي العتاهية والمهدي ليفرح بموته؟ يعيد الكفراوي - في سلسلة مقالات له نشرها في مجلة الرسالة في عام 1952 - ذلك بسبب جلد المهدي أبا العتاهية مائة سوط، ونفيه إلى الكوفة حين شبب بعتبة جارية زوجه ريطة بنت أبي العباس، فقال:
ألا إن ظبيا للخليفة صادني
ومالي على ظبي الخليفة من عدوِ
يقول الكفراوي: قدم الشاعر إلى بغداد راجياً أن يصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي، عسى أن يعجب به ويستدعيه لإلقاء الشعر بين يديه. فلم يجد سبيلا لذلك إلا أن يتغنى في إحدى جواري القصر، راجيا أن يدفعها الغرور إلى ترديد ذلك الشعر في قصر الخلافة ولفت نظر المهدي إليه.
ويُظهر لنا أن علاقة الشاعر بعتبة علاقة مصلحة، فهي أيضا كانت حريصة على أن يشبب بها، بل دفعها ذلك إلى أن تهبه مالا ليحسن به هندامه، حتى تستطيع أن تباهي به أمام قريناتها..
لكن هذا الرأي يمكن أن يرد عليه بسهولة، لأن المهدي لم يغضب وهو يستمع إلى الشاعر في مجلس حافل بالشعراء الذين قدموا لتهنئته بالخلافة، وقد ذكر جارية القصر صراحة حين قال:
ألا إن جارية للإما
مِ قد أسكن الحب سربالها
قبل أن يقول:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجرجر أذيالها
ويقول الكفراوي لذلك ابتعد الشاعر عن المهدي، ولم يظهر إلا بعد وفاته، حين قال قصيدته التي منها البيت الذي كان فاتحة هذا المقال: (مات الخليفة ...)
وواضح من علاقة عتبة بالشاعر أنها غير صادقة في حبها، ولو كانت جادة للبَّتْ رغبته في الزواج منها، لكنها رفضت طوال عشرين عاما عرض أبي العتاهية، حتى بعد وساطة هارون الرشيد. في البدء كانت تحتج بأن مولاتها ريطة لا تستغني عنها ولكن ما عذرها بعد وفاتها عام 173.
والغريب أن يعد كثير من دارسي حياة أبي العتاهية فشله في حب عتبة سببا لجنوحه إلى شعر الزهد وبراعته فيه، حتى إن أنيس المقدسي في (أمراء الشعراء العباسي) يقول: «مِن فشل دانتي نشأت الكوميديا الإلهية، فهل من فشل أبي العتاهية نشأ شعر الزهد؟».
وواضح من حياة أبي العتاهية أن زهده كان مجرد قول لا فعل، فقد كان حريصا على كنز المال دون الإنفاق منه. وقد تنبه إلى ذلك عدد من معاصريه، أهمهم سلم الخاسر الذي ما إن سمع أبا العتاهية يقول له:
تعالى الله يا سلم بن عمرو
أذل الحرص أعناق الرجال
حتى رد عليه:
ما أقبح التزهيد من واعظ
يُزَهِّد الناس ولا يزهد
لو كان في زهده صادقا
أضحى وأمسى بيته المسجد
وقد لاحقته تهمة الزهد الزائف في عصر أبي العلاء المعري الذي قال ساخرا:
الله ينقل من شا
ء رتبة بعد رتبة
أبدى العتاهيُّ نسكا
وتاب عن حب عتبة
وقد تناول الباحثون أسبابا أخرى لزهد أبي العتاهية، ومنها نشأته المتواضعة التي لم يغيرها نبوغه الأدبي ولا ثروته المالية، ويستدلون بأن عتبة صرحت له أنها ترده لوضاعته! وهذا غير صحيح، فمتى كانت الوضاعة سببا في الزهد؟ قد تكون دافعا للابتعاد عن الناس والانطواء على النفس، أما الزهد فلا بد أن يكون نابعا من الإيمان، ومن لم يقتنع بأن دافعه ديني فليبحث عن أسباب معقولة.
لكن أكثر الأسباب غرابة التي لم يذكرها سوى الكفراوي - وأشارت إليه الباحثة الجزائرية سميرة زركوك في رسالة ماجستير لها من جامعة وهران عام 2016 - هو مؤامرة لتقويض مجالس الرشيد اللاهية الحافلة بالجواري، أما المتآمرون فهم كل من: زبيدة زوجة هارون، والفضل بن الربيع حاجبه، وأبو العتاهية.
ويبين الكفراوي المتحمس لهذا الرأي، ما يدفع كلا من الأطراف الثلاثة. فزبيدة غاضبة من انصراف الرشيد عنها إلى الجواري الحسان، والفضل غاضب لتقريب الفضل بن يحيى البرمكي وتنحيته هو عن ممارسة مهمة الحجابة على النحو المعروف. وأما أبو العتاهية فيدفعه حقده على الرشيد الذي لم يسعَ جادا لتزويجه من عتبة على الرغم من أنه لا يعجزه - لو أراد - أن يجبرها على ذلك! بل لم يكتف بذلك فأمر بسجنه حين امتنع عن قول شعر تغنيه القيان في مجالسه، وأقسم ألا يطلقه حتى يعود لقول الشعر الغزلي! فهل يعجز الرشيد أن يجد بديلا له من الشعراء الذين يتمنون ولوج القصر، والاقتراب من مجلس الرشيد؛ بله أن تطير أسماؤهم وأشعارهم في الآفاق؟!
ثم ألم يفكر في عاقبة عصيانه لأوامر سيده الخليفة وصدوده عنه؟ وكيف لم يحسب خسارته المادية وهو الذي كان يتسلم منه خمسين ألف درهم سنويا غير المكافآت المبعثرة؟ هل كان الفضل وزبيدة قادرين على تعويضه عن خسارته وحمايته من سطوة الرشيد؟
وهل كانت تظن زبيدة أو الربيع أن أبا العتاهية إذا امتنع عن قول الشعر الغنائي فسيكسر الرشيد أعواده ويغلق مجلسه؟!
بل لقد حرص الكفراوي على بيان أهمية أبي العتاهية للرشيد وحرصه على مجلسه، بأن زعم أن الرشيد أغضبه انصرافه عنه إلى أخيه الهادي بعد أن تولى الخلافة التي لم تدم له أكثر من عام واحد، بعد أن كان صفيه في عهد أبيه المهدي، مما جعله - بعد توليه سدة الحكم - يؤدبه بالسجن مدة يسيرة، قبل أن يجد سببا آخر لإيداعه السجن، وهو امتناعه عن قول الشعر العاطفي. ترى بمَ كانت المغنيات يغنين في فترات سجن أبي العتاهية المتقطعة؟!
حتى الأبيات التي كتبها أبو العتاهية وهو في السجن متشوقا لزوجه التي غاب عنها، فقد جزم الكفراوي أن المقصود بها لفت انتباه الرشيد إلى زوجه زبيدة، والاكتفاء بها، ولنقرأ الأبيات ونبحث عن المعنى الباطن، إن كان هناك معنى غير الذي يفهمه أي منصف:
من لقلب متيم مشتاق
شفه شوقه وطول الفراق
طال شوقي إلى قعيدة بيتي
ليت شعري فهل لنا من تلاق
هي حظي قد اقتصرت عليها
من ذوات العقود والأطواق
جمع الله عاجلا بيَ شملي
عن قريب وفكني من وثاقي
ففي حين يرى مؤرخو الأدب في هذه الأبيات احتيالا من أبي العتاهية للخروج من سجن الرشيد، الذي أقسم ألا يخرجه حتى يقول شعرا في الحب؛ يرى الكفراوي فيها مبادرة من الشاعر إلى البر بالعهد الذي قطعه على نفسه لزبيدة بأن يلتزم جانبها في كل ما يقوله للرشيد من أشعار!!.
** **
- سعد عيد الله الغريبي