د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
توفيت أمي الحبيبة -رحمها الله- في يوم الأربعاء الحزين؛ العشرين من شعبان الماضي، حيث كان لديها دلالات نكوص صحي أضناها حملها، ولم تكن تقوى على البوح بها والنهوض معها ولها؛ فكل شيء في جسدها الطاهر معدٌّ للانكشاف على الموت، اختلفَ حضور أمي المتوهج في أشهرها الأخيرة فكانت تبدو حزينةً كقطرة ماء منحدرة من جبل تدكّه آلات الحفر! فجاءت لحظات رحيلها إلى جوار ربها؛ وأضحتْ ساعات احتضارها لغة مختلفة لم تُدرَّس ولن تُدرَّس! ولتشييع جنازتها والصلاة عليها معانٍ تفتقتُ عنه مكانتها ومكانها، ولرحيلها الأخير ألف حكاية وحكاية! حتى عندما عقد الأطباء معها اتفاق الاستسلام لِما يملون عليها ويقولون ويقررون، كان حزنُ أمي معتقلاً في أعماقها كبطل مغوار استيقظ والسلاسل في يديه «ولم تبدها لهم «فكانت أمي دائمًا ترى في الصمت عنوان قوتها -رحمها الله، وفي منزلها الوقور ذلك الذي كان مسترادًا آمنًا؛ ومن ثم شاركتْ جدرانه الأدواء فحلّتْ في كنف أمي لتسلب منها الهدوء والعافية؛ فأحاطها استهداف مؤلم ما انفك يعجزني وصفه فستائر النوافذ في غرفة أمي المنزلية الأنيقة تشبه الكفن الذي طالما خشيتُ التفافهُ على جسدها الطاهر فالتف معلنًا استسلامها لقضاء الله وقدره، وتلكم سنن الخالق عز وجل.
وما زالتْ تخذلنا ورقة «الزمن» ويستلبُ هدوءَنا الموتُ، فنبقى في صفوف المشتاقين نرقبُ لقاءً في الفردوس؛ فللموت مواقيته الخاصة التي تحل وقد تأبطتْ نفوسًا باهظة الأثمان؛ وذلكم موقف يفري الأحشاء ونتغصّصُهُ ولا نكاد نسيغه، ولكنه اليقين برحمة الله {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة الأعراف 34)؛ عاشت أمي -رحمها الله- زمنها مكثّفاً؛ فلقد أشعل والدي -رحمه الله- كل الطاقات المثالية أمام أمي، فأصبحتْ ذلك النبع الذي أرضع الكون الأسري والعائلي الممتد؛ تؤسس لنظامها المتين الذي يندر اتخاذه منهجًا حيث يتفرد به والدي وتصنعه أمي بمعاييرها وتمزجه بخلطتها السرية؛ ولقد شاركتْهما الينابيعُ عطاءاتها وفيضها فارتوت حتى أينعتْ! فكانت سياسات التشغيل المنزلية العائلية ملأى بمثالية عظيمة؛ وبموازين ثقيلة من مكارم الأخلاق، وبفيض غزير من الفعل الجميل والتعامل الأجمل والإسهام المجتمعي الأسمى؛ حتى اسُتل صبرنا وتماسكنا ليس من الموت، فالموت ينتظرنا جميعًا {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، بل من الفقد الأزلي الذي استدار حول فجيعتنا في أمي وقبلها بثلاث سنوات فقدنا والدي -رحمهما الله جميعًا.
ويبقى الحزن من المسائل الخاصة التي يتلقاها المحزون بوسائله الخاصة فاستنهض الفقدُ مشاعري فكانت الكتابة شفيعًا لأبقى مع أمي وسياسةً استلهمُ ذكراها؛ واستنطق حضورها الوارف الذي تربعتْ فيه على سدة الحياة الدنيا ثمانين عامًا ونيفًا، وعندما رصدتُ أفكاري كانت مع كل فكرة ذكرى؛ ولا ذكرى إلا وتبعثُ على التجلد، وأنها -رحمها الله- في كنف رحمن رحيم، فاللهم إنا نشهد أن أمي ربَّتْ واحتضنتْ ووجهتْ وأقامتْ لنا الأوتاد، لقد أخذنا ورب الكعبة سنين صباها، ولمّا أزهرتْ ساحاتنا غادرتنا لأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين في درس موجزه أن الزمن يسيل ولا شيء يبقى إلا وجه الله عزّ وجل؛ فاللهم احتضنها في جِنانك مع والدي ووالديها وأخوانها وأختها واجمعنا معهم في الفردوس.
رحلتْ أمي سنبلة الحقول وعطاء الينابيع وهامات النخيل ومتون القصائد وعمود بيت لم يتضعضع يومًا..
وفي أوار أحزاننا نثمِّن لكل من واسنا وأنعش قلوبنا المكلومة، وندعو الله لأولئك الواصلين إلينا في المسجد والبيت والمتصلين بنا بجزيل الأجر.
رحم الله روحاً لا تعوَّض وأسكنها الجنان.
اللهم استبرق الجنة وكوثرها!