محمد سليمان العنقري
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تشكّلت القوى الكبرى بالعالم وباتت الهيمنة لأميركا وحلفاؤها في أوروبا وأمريكا الشمالية، وهي دول حلف الناتو على وجه الخصوص، بينما كان القطب الثاني الأقل سيطرة يقوده الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية حيث أسسوا حلف وارسو، ولكن هذا القطب إنهار بعد تفكك الدولة السوفيتية عام 1991 بل وانضمت بعض الدول التي استقلت عنها بالإضافة لدول من أوروبا الشرقية لحلف الناتو وللاتحاد الأوروبي، وعلى أساس هذه الخارطة السياسية تشكلت أيضًا مراكز القوة في المنظمات الدولية، ولكن العالم اليوم الذي أصبح فيه قطب واحد تمثله أميركا يتجه لمزيد من المواجهات وليس الاستقرار بسبب الرفض الدولي لهذه الهيمنة الغربية وظهور الاقتصادات الناشئة كلاعب رئيسي في نمو الاقتصاد العالمي، حيث بدأت ملامح أفول نجم تلك الدول الغربية مع ضعف نموها الاقتصادي وتسارع حجم ديونها السيادية بل وشيخوخة مجتمعاتها وتراجع ملفت بنموها السكاني مع انتشار الأفكار المنافية للطبيعة البشرية ودعمها بالتشريعات ومحاولة نشر هذه الأفكار عالمياً وأحيانًا محاربة أي دولة ترفضها إعلامياً وعبر أذرع دولية مسيسة تسمي نفسها بهيئات حقوق الإنسان وبتناقض مفضوح بين ادعائهم بدعم الحريات بينما يتدخلون بثقافات وعادات وتقاليد ومعتقدات المحتمعات التي لا تتفق معهم في هذه الانحرافات الفكرية الخطيرة التي تهدد مستقبل البشرية.
لكن الحرب الروسية على أوكرانيا أظهرت وجهاً خطيراً للقوى الغربية ومَن تحالف معهم لمواجهة روسيا، حيث يتم فرض عقوبات على كل ما هو روسي حتى إرثها الثقافي من مئات السنين لجعلها دولة منبوذة لكن ما يقومون بها من خلال فرض قرابة 6000 ألف عقوبة على موسكو حكومة وشعباً إنما يمثل أكبر اختبار لقيام حلف جديد يضاف له أسلحة جديدة تقوم على عقوبات اقتصادية مشددة وحرب إعلامية ممنهجة لا تقف عند حد مواجهة الدولة التي يستهدفونها بل حتى من لديه تعاملات معها من خارج هذا التحالف الذي تناغم بوقت قصير، ومن الواضح أن له أرضية مشتركة واتفاقيات تعاون واسعة حيث انضمت أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية لدول الناتو في مواجهة روسيا بالقوى الناعمة ويحاولون جاهدين لتحييد دول كبرى كالصين من التعامل مع روسيا ويذكّرونها بأن مصالحها معهم أكبر، رغم التزامها الحياد وإعلانها أنها تحترم سيادة الدول، فمثل هذا التذكير ليس إلا تلميحات للابتزاز مستقبلاً وتخييرها بين أسواقهم أو السوق الروسي، فإذا نجحوا بتدمير اقتصاد روسيا بهذا النهج فقد يكررونه مع الصين ومع غيرها، فحالياً هم يعتمدون على ما يملكونه من مفاتيح قوة متعددة من خلال سيطرتهم على النظام المالي العالمي ونظام سويفت تحديداً، بالإضافة لعمق أسواقهم المالية وضخامة اقتصاداتهم وحجم الاستهلاك الضخم فيها واحتكارهم لتكنولوجيا الصناعة والخدمات بمختلف قطاعاتها وأنشطتها.
فالهيمنة الغربية على العالم لا تحتاج لتأكيدها إلى ذكر إحصاءات أو تحديد بواطن النفوذ لديهم، فيكفي أن ثلاث دول من أصل خمس كأعضاء دائمين في مجلس الأمن منهم، وهم أميركا وفرنسا وبريطانيا، كما أن سيطرتهم في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والعديد من المنظمات أعطتهم الكثير من النفوذ عالمياً، إلا أن هذه القوة بدأت تتراجع منذ قرابة ثلاثة عقود، فالدول الناشئة اقتصادياً هي مَن تحصد مراكز النمو الأولى في العالم اقتصادياً وباتت أسواقها الأهم من حيث الاستقطاب وجذب الاستثمارات، وجل نمو استهلاك وطلب السلع يأتي من أسواق هذه الدول، فأغلب الصناعات في العالم وتوريد السلع يأتي منها، فإذا كان أكثر من 35 بالمائة من الناتج الإجمالي العالمي يأتي من الافتصادات الناشئة، فإن النسبة مرشحة لتتجاوز 50 بالمائة حتى العام 2030م، بل إن تأثير ما يحدث بالصين اقتصادياً سلباً أو إيجاباً أصبح له تأثير عالمي كبير في تحركات العملات والأسواق المالية والسلع، ولم تعد أميركا هي من يستحوذ على هذا الدور منفردةً، كما أن الديون السيادية للدول الغربية ومن تحالف معها ضد روسيا أصبحت ضخمة جداً وتنذر بانفجار فقاعة الديون، فأميركا قفزت نسبة الدين فيها منذ نشوب الأزمة المالية العالمية 2008 من قرابة 60 بالمائة من ناتجها الإجمالي إلى قرابة 130 بالمائة حاليًا وبنسبة تقارب 200 بالمائة، من عشرة تريليونات دولار إلى حوالي 30 تريليون دولار حاليًا، فمعدلات النمو الاقتصادي التي تحولت للاقتصادات الناشئة وبالمقابل ضعفه في الدول الغربية مع ما تعيشه من اختلالات باقتصاداتها وارتفاع حجم ديونها وشيخوخة مجتمعاتها حولها لمواجهة إزاحتها من قيادة العالم ومن سطوة هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية لتتبع أساليب تعطيها القدرة على التحكم بالمشهد الدولي باستخدام فائض القوة لديها عبر تحالفها بفرض العقوبات على الكيانات الصاعدة واختلاق الأزمات أو تأجيجها في مختلف القارات لكي تبقى لهم المكانة الدولية في التدخل لإدارة هذه الأزمات والاستفادة من حالة عدم الاستقرار العالمي اقتصادياً وسياسياً.
يبدو أن الدول العظمى في الجانب الغربي من العالم أصبح هاجسها بقاء هيمنتها بأي وسيلة، وهذا ما يلاحظ من حيث أدوارهم بإطالة أمد الأزمات التي بعضها كانت بسبب قنابل موقوتة زرعوها عندما كانوا يستعمرون بعض الدول ويفجرونها عند الحاجة، ولكن هذه اللعبة أصبحت مكشوفة وما تم فرضه من عقوبات على روسيا قد يكون سلاحاًً ضدهم مستقبلاً عندما يتجه العالم الصاعد اقتصادياً لحماية مصالحه بتحالفات يبتعدون فيها عن الغرب تدريجياً خلال العشرين عاماً القادمة، مما سيضعف دور عملاتهم كالدولار واليورو في التحارة الدولية وكذلك احتياطيات العملات دولياً إضافة للاستقلال التكنولوجي عنهم وارتفاع دور المستهلك بالاقتصادات الناشئة ليكون هو الداعم لاقتصاداتها بالإضافة للتوسع بدور نظام التعاملات المالية الذي أنشأته الصين على سبيل المثال مما يقلل من دور سويفت في النظام المالي الدولي، وإيضاً نجاح مشروع الحزام والطريق الذي يضم حوالي 70 دولة بقيادة الصين مما سيغير من خارطة التجارة الدولية وموازين القوى الاقتصادية عالمياً.