سام الغُباري
بدأنا في اليوم الأول للمشاورات اليمانية الجادة، التموضع بأكثر من عشر مجموعات تدرس وتناقش وتستفيض في دراسة الواقع الراهن للإعلام اليمني، تنوعت المجموعات بين تخصصات ومتخصصين، وتشعبت لتشمل الإعلام الجديد، والرسمي، والأكاديميين، والمحترفين، وأهل التواصل الاجتماعي، أولئك الذين لا يتأخرون عن متابعيهم في بثوث مباشرة عن كل صغيرة وكبيرة.
كنت كاتبًا، أكتب بالقلم ما أعلم، وجئت برابطة عنق زرقاء، لامعة مثل نصل مبرور، جلست إلى زملاء جميلين، كان أحدهم مذيعًا طويلًا، أرهقته سنون الحرب، حتى انحنى ظهره، أو كاد ينحني، فلم أشأ التعليق عن انهاكه الظاهر على قسمات وجهه واحدداب ظهره، كان جادًا، لا تطيح فكرة إلا ونطحها. وعن يساره مذيع قدير واعلامي مخضرم كان أكثر حيوية، رغم بلوغه سن الخمسين وما جاوزها, تحدث عن جنوب اليمن الحزين، وكيف أثّرت غزوة الحوثيين الفاجرة في مطلع العام 2015م على الوئام اليماني المفترض، وما أظهرته تلك الغزوة المشينة من عداوات قاسية، لا تكاد تُنسى على المدى المنظور.
تذكر المذيع يومًا في العام 2006م. عائلة من صنعاء كانت تستظل بخرق ممزقة من شمس ظهيرة عدن اللافح، انه يوم احتفالات العيد بسخونته وصخبه، والفنادق ممتلئة عن آخرها، ولصاحبنا بيت قريب، عرضه على العائلة المحرورة في العراء، وأكرمهم بعدها بالذبائح. كانت عيناه تفيضان بالشوق إلى صنعاء وهو يُقلد لهجة أهلها، بتلك اللذة التي تراها في عيني عاشق جديد، ثم نقر صدره وأوسعه بتنهيدة مفارق مغلوب، مردفًا: ماذا فعلتم بنا؟.
ولم أجب، اختنقت، وأشحت وجهي عن ناظريه، وبت أحدق في فراغ القاعة المطوق بالغرف العالية، والأضواء المقمرة الهادئة، وسألته: لكننا لم نكن معهم، مع الغزاة، فهم ذواتهم الذين غزونا، وتقدموا عبر شوارعنا المتعبة بالأنين إليكم، وفي طريقهم تعربش الأنذال على صهوات دباباتهم الرديئة لمحاولة النيل منكم، فكان أن اسمعتموهم صوت الغضب، وصيحة البعث، فكأنهم لم يكونوا.
تبسم صديقي الذي أفصح عن يمانيته، وعلو أجداده الملوك بفخر أسرّني، وأسَرَني، وقلت مازحًا: ها نحن أولاء معًا على بساط قحطان عيال عمومة، وإن نزغ الشيطان العنصري بيننا. فأقبل بكفه من علو، يصافحني حتى اهتز جسدي وكل ما على طاولة المشاورات من ماء وأوراق وأقلام.
وعن يميني، شاب متحمس، يرتدي قبعة فيدورا الشهيرة، وله منها في دولابه الخشبي خمسة ألوان، يرتدي كل يوم واحدة تتلاءم مع رداءه الرسمي، فيبدو مميزًا مثل خبير أجنبي هبط لتوه على طاولتنا ليضفي إليها بريقًا ذا نكهة.
وكان الأكاديمي المطلي بلون القمح يشرح بحنكة باحث متمرس أسس النظرية، وفرضياتها ومباحثها، وكنت معه في نقار متصل مثل ديكين لم يعجبهما لون الشفق، فقررا أن يتركا الفجر يمضي دون صياح!. استهلكتنا المصطلحات، وكنا كلما حاد بنا الحديث عن الهدف، أعادنا إليه، حتى وافقناه على كل شيء، وقد طافت ورقتنا أعين المستشارين فأعجبتهم، فتغذى غرورنا بنجاح ابداعنا، وعصارة ما هرمنا من أجله.
ركزنا على الهوية في الرسالة الإعلامية، وأهمية الإعلام الخارجي، وواحدية الخطاب رغم تعدد المشارب، وتمنينا للضمير الوطني الإفاقة من حالة سبات مهلكة، وشجعنا عين اليمامة الزرقاء، وطالبنا برعاية زملائنا في الداخل، فكانت منهجيتنا فائقة الدقة، عميقة، حتى كدنا نفوز بلقب الأفضل، إلا أننا لم نكن في مسابقة.
في طريقي إلى الخارج، اختطفت «بروش» مجلس التعاون الذهبي من صدر صديق سعودي كريم، لم يعترض، بل زاده كرمه بكف مربتة على صدري، مضيفًا: احتفظ به حتى اليوم الذي تصبح فيه اليمن عضواً بهذا المجلس.
كنت أحث الخطى إلى الخارج، لكن عبارته أوقفتني، واسترعت اهتمامي الكلي، ولم أدرِ ما أضيف، غير أني أتذكر كفّينا يعانقان بعضهما، كأنهما في المصافحة جناحا نسر مهيض، قلت: سنقاتل معًا حتى يصبح ذلك اليوم واقعًا.
وانتهى اليوم بابتسامة تفاؤل واسعة الجمال.
** **
- كاتب وصحافي من اليمن