عبدالرحمن الحبيب
التاريخ الطبي لمواجهة الأوبئة خلال مائتي عام تمت صياغته بلغة عسكرية تحت شعار «الحرب على المرض» حيث يتم تصوير العاملين في مجال الرعاية الصحية على أنهم «خط المواجهة» والفيروسات على أنها «عدو غير مرئي» أو «غازي» يجب التعرف عليه وهزيمته بمعجزة طبية مثل الأدوية أو اللقاح وينتهي الأمر. إصرارنا على استخدام الاستعارة العسكرية وتأطير المرض البيولوجي من خلال سيناريو الحرب مطمئن وقوي لأنه يوهمنا بنهاية الأزمة مع نهاية الحرب، لكن الاستعارات تؤثر فيما نفكر فيه ونفعله.. هذا التيار السائد خاطئ وعائق للاستجابة الفعالة للوباء لأنه يضيق الرؤية حول الأمراض المعدية بطرق تعزز في الواقع تطور مسببات الأمراض القادمة، والتي من المحتمل أن تكون مدمرة.
هذا ما يذكره البروفيسور أليكس دي وال (جامعة تافتس) في كتابه الجديد «الأوبئة الجديدة والسياسة القديمة: مائتا عام من الحرب على المرض وبدائلها» طارحاً قضية صحة عامة جديدة لتشكيل صورة أوضح لزمننا الحديث حيث للأنشطة البشرية تأثير بيئي على الأرض، ولأننا نعيش لحظة محورية في العلاقة بين المرض والسياسة والمجتمع.
يناقش الكتاب بأنه خلال مواجهة الأوبئة ظل علماء الأنثروبولوجيا الطبية والمؤرخين بالمرتبة الأخيرة؛ أما من يأتي في المرتبة الأولى فهم بطبيعة الحال علماء الأوبئة والطب المباشرون. لكن العلم نادرًا ما يقدم اليقين، بينما القادة السياسيون الذين «يتبعون العلم بطاعة» غالبًا ما يكونون غير مؤهلين للعمل بالمجالات الاجتماعية والسلوكية المحيطة، ويلجأون إلى «الابتذال والاستعارة».. إنهم ببساطة، يتبنون السرد العسكري للحرب على المرض.. تقدم الجريمة استعارة موازية: حيث العالِم كمحقق يبحث عن الجاني الممرض. هنا تكون العملية كعمل الشرطة حيث «ضبط مسببات الأمراض يندمج في ضبط الأشخاص، حتى في اللغة: «الإغلاق» له صدى استجابة مشابهة للسجن». ويرى المؤلف أنه بدلاً من «كتابة حبكة التحري للمرض»، ينبغي تقديم «قصة تطورية - بيئية» لتشكل لوحة أوسع للمشهد.
تمت مناقشة خمسة أوبئة بصورة موجزة، ثلاثة منها سابقة: الكوليرا في الهند وأوروبا في القرن التاسع عشر، والإنفلونزا الكبرى في 1918 - 2019، وفيروس نقص المناعة في الولايات المتحدة وإفريقيا. أما الرابع، فأعطاه اسم وباء إكس X، وهو الوباء الذي لم يحدث: ما الذي يمكن أن يصبح عليه سارس أو إيبولا، أو ما تتخيله مناورات الإرهاب البيولوجي، أو ما يتم تقديمه في بعض الأفلام والروايات. الخامس هو الوباء الفعلي الذي وصل بجائحة كورونا «أقل جائحة غير متوقعة في التاريخ».
يرى المؤلف أن العالم الحديث يتبنى سيناريو عسكريا للتعامل مع تهديدات الأمراض الوبائية، ولكنه فشل في مراراً وتكرارا. العمل العسكري رافق المرض عبر تاريخ البشرية، وشارك لمواجهة تفشي الأوبئة وما صاحبها من اضطرابات مدنية، حسب رأي المؤلف الذي يطرح فكرة «أن العلم يمكنه إعلان الحرب على المرض، والانتصار» نشأت بألمانيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما عزل روبرت كوخ ميكروب الكوليرا. تقدم الكوليرا أوضح قصة لأصل الحرب على المرض؛ ففي المرة الأولى أعلنت أوروبا «الحرب» على الكوليرا بالقرن التاسع عشر، لكن الحرب لم تهزم المرض بل خدمت أغراض الدولة والإمبراطورية حسب استنتاج حاد للمؤلف: «كانت الكوليرا جائحة للغزو الاستعماري الذي نجح المستعمرون أخيرًا في حصره في المستعمرات».
أما الإنفلونزا عام 1918م فقد خرجت من حرب حقيقية واجتاحت العالم دون رادع سواء من سياسات الدول أو الطب. هذه الجائحة كانت الأكثر إثارة للحيرة، فقد ظهرت في خنادق الجبهة الغربية بالحرب العالمية الأولى، حيث وفرت ظروفًا مثالية لانتشار الإنفلونزا التي قتلت حوالي 60 - 100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، وهي أكبر حالة وفاة جماعية منذ الموت الأسود، لكنها انتهت من تلقاء نفسها دون حل طبي. كانت هذه الفيروسات غير معروفة لوقت طويل، حتى تم التعرف على أنواعها وتحولاتها من خلال الطفرات الجينية ونسلها من فيروسات الإنفلونزا التي تنتشر موسميًا اليوم. الإعدام الجماعي للدواجن لمواجهة أنفلونزا الطيور في التسعينيات أفاد مزارع الدجاج واسعة النطاق على حساب صغار مزارعي الدجاج، مما شجع على الزراعة الضخمة المكثفة التي يكون فيها المرض عرضة للانتشار السريع.
قبل أربعين عامًا، تحدى الإيدز العلوم الطبية، ولا يزال معنا، لكننا تعلمنا كيف نتعايش معه، وهو الفصل الأكثر تفصيلاً نتيجة خبرة المؤلف في إفريقيا. منشأ الفيروس معقد، فهو مرض ينتقل من القردة للإنسان، وبشكل مشابه تتردد أصداء الخلافات المحتدمة حول منشأ وأصول فيروس كورونا وبداية انتشاره. بالاعتماد على التجارب التي تم إجراؤها فيما يتعلق بفيروس الإيدز والإيبولا، يجادل المؤلف بأن «الجائحة» البيولوجية الاجتماعية لا يمكن إيقافها بنص الحرب، ولكن يجب إدارتها بوسائل بيولوجية اجتماعية متجذرة في المجتمعات المتضررة.
الكتاب يطرح نهجاً أكثر شمولية للأمراض الوبائية بما يتماشى مع منظوري الصحة العامة الجديدة والأنثروبوسين (حقبة النشاط البشري ذو التأثير المهيمن على المناخ والبيئة).، لإعادة الاعتراف بالمرض على أنه ينتج بشكل مشترك عن مسببات المرض والكائن المضيف والبيئة. وهو يجادل بأن هذا من شأنه أن يوفر أساسًا للتعامل ليس فقط مع الحدث الوبائي المتوقع قدومه، بل أيضاً لمعالجة الأزمات الصحية والبيئية والاجتماعية الأوسع والمتداخلة.