د.خالد بن عبدالعزيز الشريدة
السؤال الذي دائما ما يدور في ذهني.. لم لا نمنح أنفسنا الثقة بأننا قادرون.. بل مبدعون في قدرتنا على فهم مجتمعاتنا وتحولاتها وما يطرأ عليها من ظروف.. ومتمكنون من وصف كل ذلك وتحليله ثم تقديم ما نرى أنه أجدر به في أمنه واستقراره ووحدته وتنميته بشكل أكبر وأكثر وأجدر وأجدى من استدامة حاجتنا أو لكل ما أنتجه الغرب) التي لا تعني أو بل ربما تناوئ) بيئاتنا ومجتمعاتنا؟
بل هي منتج في أصله نبت وترعرع في ثقافة لها ظروفها وأصولها ومتطلباتها المختلفة إلى حد كبير عما نحن عليه!
بل إنها في ميلادها انطلقت في عراك مع الدين وقيمه!
على سبيل المثال ندرس أو ندرس علاقاتنا الأسرية بأنها مجرد علاقات تبادلية مادية أو نفعية) أو صراعية بين الجنسين أو الأجيال!
في الوقت الذي نحتاج لتعزيز مفاهيم أو المسؤولية الشرعية والرعاية والأمانة) وقداسة العقد الشرعي ومقاصده الكبرى.. التي يعلمنا ديننا أنها أصل العلاقة في كيان الأسرة.
نعم.. لا أحد ينكر بأن الظواهر الإنسانية فيها المتشابهات وفيها المختلفات لكن الفهم والوعي هو أن نمتلك القدرة على تفكيك ذلك وتحليله ومعرفة المتشابه والمختلف.. ومن ثم تقرير الرؤى والنظريات التي تناسب كل بيئة وفق معطياتها.
ومن هنا وإلى هنا يجب أن نعي وندرك هذه الحقيقة الإنسانية والمسلمة الاجتماعية وهي:
أن الفارق الأهم والمحوري لعلم الاجتماع والخدمة بل كل العلوم التربوية والإنسانية بين رؤيتها الإسلامية ورؤيتها الغربية.. إن الأول جعل من الاجتماع الإنساني أو عبادة) وأن الثاني جعل منه أو مادة)!.
الأول يتأسس على أو وحي معتبر) والثاني يرى أن حياة الإنسان مجرد أو مختبر)!
والمسلمة الأولى هي أن ما يحدث لا يمكن ان يقع دون علم الله وإرادته وأقداره.
هذا يعني أن سنن الله في الاجتماع الإنساني والحياة بكل معانيها تسير وفق نواميس كونية أودعها الله في السموات والأرض ويبقى أنها تفعل وتتفاعل وفق تجسيد حقيقة العبودية لله وحده.
وتفسير ما يحدث في مختلف مجالات الحياة له عوامله الدينية والدنيوية.. وإذا ما اقتنعنا أو تم إقناعنا بأننا نستطيع تحليل وتفسير ما يقع في المجتمع من ظواهر ومظاهر دون فعل للأقدار الربانية فإننا نقدم أو مادة) مبسورة ومبتورة عن أسبابها وجذورها مكتفين بمظاهرها فقط!
نحن نؤمن بأن الله خلقنا لغاية ربانية أو وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
ونؤمن بأن أو من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) سيتم تيسير الحياة له.. ونؤمن بأن أو من بخل واستغنى وكذب بالحسنى) ستتعسر عليه الحياة.. فبقدر البذل والعطاء مع التقوى والصدق يستشعر الإنسان التيسير.. وبقدر البخل بكل معانيه المادية والمعنوية تتعسر الحياة.. وكأن المعاني تقول بأن البخيل حرم نفسه من التمتع بالخير.. فكذلك يتم تعسير الحياة عليه..!
ونؤمن بأن كل مولود يولد وقد أو كتب رزقه وأجله.. وشقي هو أو سعيد).
ونؤمن بأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.. ونؤمن بأن أو من أراد الحياة الدنيا وزينتها) أن الله سوف يوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون.
ومعالم عظيمة لو تم تتبعها لوقفنا على أصول وتقلبات هذه السنن الربانية في حياتنا الاجتماعية.. ويكفيها ويحتويها هذا المعنى العظيم {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} هذه هي الرؤية التكاملية التي تحكم وتتميز بها الرؤية الإسلامية.
ولنا في تفاصيل هذه المنهجية مع عدد من الزملاء طروحات قادمة ستفتح مغاليقها وتبشر بآفاقها التي ستوضح أن سعادة البشرية وأمنها واستقرارها وتنميتها محتاج لهذا التأسيس المنهجي الأصيل.
العقيدة الصحيحة تفعل فعلها في المجتمع من حيث صفاء الذهن وتعزيز السلوك المعتدل والمتحفز لنفع البشرية جمعاء أو هذه مسلمة عقدية اجتماعية) والرؤية المادية الغربية عموما فيها من يلغي بتاتا أثر الدين على الدنيا..!
وفيها من يؤمن بأثر الدين وإن بأشكاله المحرفة أو والمنحرفة) وفيه من يجعل ميدان الحياة خاضعا لشروط مادية بحتة هي التي ترفع من شأنه أو تخفضه.. دون أي تأثير أو علاقة بالدين.
والقارئ للاجتماع الإنساني الغربي يجد فيه ما يستغرب من التيه الذي أصابه بقدر اعتماده على النظرة المادية الصرفة.
وهذه الرؤية أو الغربية) كان خلفها في مختلف المجالات عدد من المفكرين الذين يرون أن اللحاق والسباق في السلم الحضاري بحتاج إلى أن أو نولي وجوهنا شطر المنطق الغربي).
والتنصل من كل إرث عربي وإسلامي)..!
وعصرنا اليوم يشهد تناميا لانكشاف المجتمعات الغربية والحضور لأشكال العنصرية والصراعات والتفاوت المادي الكبير.. الذي أدى لكثير من التصدعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وعليه فإن هذه الإشكالات تخلق أزمات يومية نراها رأي العين.
إفلاس الرؤى المادية وانكشاف خيباتها يوما بعد يوم في عالم الغرب يحتاج منا لجرأة في طرح قراءاتنا لحركة المجتمع وتفاعلاته التي تؤسس لحياة أكثر أمنا ووحدة واستقرارا وتنمية. لكن هذه الجرأة العلمية تحتاج منا:
أولا: ليقين بها ثم
ثانيا: لثقة بنا ثم
ثالثا: لتبنيها في مختلف طروحاتنا وطموحاتنا.
إننا نملك في إرثنا وتراثنا المسلم من الثراء والتنوع والقدرة المهيبة على رصد ووصف وتحليل وتقدير ما يحصل للإنسان والمجتمع في طبيعة التغيرات وعلاقاته.
ولو اطلع أحدنا على منتجات وتراث علماء المسلمين أمثال أو ابن أبي الدنيا في أدبه وابن مسكوبه في تهذيب أخلاقه والسيوطي في أحكام سلطانه وابن تيمية في مختلف مؤلفاته وابن خلدون في مقدمته وابن قيم الجوزية في زاده ومعاده وابن القيم الجوزي في طروحاته النفسية والاجتماعية والشاطبي في موافقاته والصنعاني وابن عاشور في عظمة تفسيره وغيرهم كثيرون دون عد ولا حد..) قامات علمية رائدة لو تم الاطلاع على ما شيدوا من علوم في الفعل الاجتماعي والتفاعل والأنظمة وعلوم العمران البشري لعلمنا أننا ألزمنا أنفسنا بالدوران حول المنتج الغربي كالوظيفية المادية والماركسية والتفعالية الرمزية وغيرها من الطروحات أو المادية).. وما زلنا نطرح ذلك وكأنها مسلمات إنسانية.. بل ألزمنا بحوثنا بأن تسير وفق افتراصاتها وتوجهها وتنطلق منها بطريقة تثير تساؤلات كثيرة وكبيرة حول إشكالية هذه المنهجية في صدق البحوث وتجردها.. ناهيك عن عدم اعترافها بأي سنن ربانية نؤمن بأن لها أثرها الفاعل في تفاعلاتنا في الحياة.. ويكفينا الإشارة إلى ظهور الفساد في البر والبحر أو بما كسبت أيدي الناس) في التنزيل الحكيم. إذا لا يمكن لأي تفسير مادي أن يربط بين مظاهر الفساد والإفساد وطبيعة الكسب في الحياة..! لا يمكن إلا لمن يؤمن بأن هذا من فعل الله في المجتمع.
هنا ليس رفضا للمنتج النظري الغربي بكل مافيه.. ولمن أخذه بقدر وبحذر وبقدر ما يفيد منهجية البحث وانضباطه.. وهذا مطلب علمي راسخ عند كل متخصص.
أملي الكبير في نخب من الزملاء والزميلات ألا نحاول فقط، بل نجزم ونعزم بالغوص في تدبر ما لدينا من ملكات وممتلكات تثري عقلياتنا وبيئاتنا ومجتمعاتنا ومراجعة ما تم طرحه من فطاحل العلماء المذكورين وغيرهم وربط علومنا بمنجزاتهم العلمية وتكليف طلاب وطالبات وباحثي الدكتوراه والماجستير بالغوص في مثل هذا التراث النظري واستخراج مكنوناته والبناء عليه ولتكن روح الرؤية الإسلامية الناضجة حاضرة في مختلف أطروحاتكم.. كي تفيد وتجدد في علوم العمران البشري.
بل إن ما تم ذكره من علوم غزيرة ليس فقط في الرؤى النظرية والعلمية والعملية بل كذلك في المناهج المستخدمة في الدراسة وطرق التحقق من المعلومة وأساليبها.. وأساسها أصل التوجيه الرباني {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
وقد لمست انجذابا وإعجابا لعدد من السنوات درست فيها زملاء وزميلات في مراحل الدكتوراه والماجستير حول أو الظاهرة الاجتماعية في القرآن الكريم) ومواد أخرى تؤسس لهذا المسار في قسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية في جامعة القصيم فرأيت تفاعلا وتقديرا وإنتاجا يجعل الباحث يعتز بما يسمع ويقرأ ويحاور ويناقش في هذا التوجه الغني الثري بكل ما فيه.. حتى تكونت قناعة لنخب الباحثين من الزملاء والزميلات:
إن الفعل الحضاري يحتاج لكي يكون حاضرا لثقافة في معرفة السنن الإلهية وكيف تعمل هذه السنن في مسيرة الحياة بكل ما فيها ومختلف معانيها.
وهذا ما اسميه أو مشروع الحياة) لكل متخصص ومهتم بمثل هذه العلوم التي أحب أن أسميها أو علوم العمران البشري) ولا يمكن للعلم ان يُعمر دون ان يكون من يحمله عامرا بأصوله الصحيحة.. التي سيجد فيها ما يرضيه ويغنيه.
إذ كيف نعمر الحياة دون عمران لمن يحمل أمانتها ويتحمل مسؤولياتها أو الانسان) كفرد خلق لغاية.. أو والمجتمع) كبيئة ومنظومة علاقات ومصالح وتفاعلات تصب في كل ما ينميه ويحميه ويهديه.