د. تنيضب الفايدي
السَّلعُ لغة: واحد السُّلوع، وهي شقوقٌ وطرقٌ في الجبال، وهو من الجبال الشهيرة بالمدينة المنورة وكان في بداية التاريخ الهجري وفي عهد رسول الله بعيداً عن البنيان حيث ورد اسمه في حديث الرجل الذي طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستسقي لهم، فقد روى أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس ستاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة ورسول الله قائم يخطب فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر»، قال: «فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس» متفق عليه.
وتاريخ سلع جبل موغل في القدم وقد يكون سابقاً للمدينة المنورة حيث تذكر بعض الأبحاث وجود اسم سلع في التوراة باسم (سالع)، حيث يخرج الله الحق للأمم من سالع وذلك كما ورد في الإنجيل وأثبتت ذلك بعض البحوث الحديثة، وهو جبل منفرد يشرف على كامل المدينة المنورة من النواحي الأربعة وقد أحاطت به المباني حالياً إحاطة السوار بالمعصم، وتتصل به عدة جبيلات ففي الجنوب الشرقي جبل سليع وفي الشرق يتصل به جبيل يشكل مع جزء من سلع ثنية الوداع (القرين الفوقاني) ثم جبل في الشمال الشرقي يسمى جبل الراية جبل ذباب (أو القرين التحتاني)، ويبلغ طول جبل سلع من جنوبه حتى شماله إذا ما أضيف إليه جبل سليع كيلو ونصف الكيلو (1500 متر) وعرضه إذا ما قيس من الثنية التي تفصل بينه وبين سليل حتى شعب بني حرام (600 متر). ويتخلل جبل سلع عدة شعاب وفي جميع اتجاهاته، ففي الجنوب شعب يسمى قديماً مِرْبد النعم يفيض على مسجد السبق وعين الزكي. وفي الشرق شعب أيضاً تمر به ثنية الوداع وفي الشمال الغربي يوجد شعب أو تجويف به مجموعة من المساجد أشهرها مسجد الفتح ويطلق عليها في الزمن المتأخر المساجد السبعة، وفي الجنوب الغربي تجويف آخر أو الشعب يسمى شعب بني حرام، وهم فرع من قبيلة بني سلمة وفي أسفل هذا الشعب مسجدهم مسجد بني حرام وتصلى فيه الصلوات الخمس.
وفي أعلاه كهف بني حرام حيث كان بعض الصحابة يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخافون عليه وذلك زمن حصار الخندق فيدخلونه كهف بني حرام فيبيت فيه وذلك قبل نـزول آية العصمة حتى إذا أصبح هبط إلى مقر القيادة (مسجد الفتح). ولا يرتفع جبل سلع كثيراً (من 80 - 110 أمتار) وقمته منبسطة ويحيط بها ويتخللها بعض القمم الصغيرة ولاسيما في الجهة الشمالية والجهة الجنوبية والغربية، وعلى قمته بعض المباني والقلاع القديمة وأغلب صخوره تميل إلى اللون الأسود تشبه (صخور الحرة).
كما كان غرب جبل سلع نخل جابر بن عبد الله الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حدثت معجزة سداد جميع الديون من كمية قليلة من التمر ومن أعلى سلع بشر كعب بن مالك رضي الله عنه بتوبة الله عليه. وفي جزئه الشمالي الغربي ارتبطت به غزوة الأحزاب أو الخندق وبه مسجد الفتح. وعليه كانت خيمته صلى الله عليه وسلم وهو يشرف سير الغزوة ويدعو الله - عز وجل - ثلاثة أيام. فاستجاب الله دعاءه يوم الأربعاء. متفق عليه. حيث نزل جبريل يبشره بالفتح، ولما بني هناك مسجد عرف بمسجد الفتح، أو مسجد الأحزاب أو المسجد الأعلى.
وتشوق الشعراء إلى سلع حيث يقول الشاعر الأحوص وهو بعَمّان مشتاقاً إلى سلع والعقيق وخاخ وهي مواقع بالمدينة المنورة:
أقولُ بعَمَّانِ وهلْ طَرِبَى بِهِ
إلى أهْلِ سَلْعٍ إنْ تشوَّقْتُ نَافِعُ
أَصَاحَ أَلَمْ تُحْزِنكَ رِيحٌ مريضَةٌ
وبَرْقٌ تَلألأْ بالعَقِيقَينِ لامِعُ
فإنَّ الغَرِيبَ الدَّارُ ممَّا يَشُوقُهُ
نسيمُ الرِّيَاحِ والبُروقُ اللَّوامِعُ
نَظَرْتُ عَلَى فوتٍ وأوفَى عَشِيَّةً
بِنا منظَرٌ منْ حَصْنِ عَمَّان يافِعُ
وللعَينِ أسرابٌ تفيضُ كأنَّما
تُعَلُّ بِكُحْلِ الصَّاب منها المدامِعُ
لأبصِرَ أحياءً بخاخٍ تضمَّنَتْ
منازلَهُم منها التِّلاعُ الدَّوافِعُ
فأَبدَتْ كثيراً نظرَتِي من صَبَابَتِي
وأكثر مِنْها ما تَجِنُّ الأضالِعُ
وكيفَ اشتياقُ المرءِ يَبْكِي صبَابه
إلى من نأى عن دارِهِ وهو طائِعُ
لقدْ كنتُ أبكِي والنَّوَى مطمئنَّةٌ
بِنا وبكُمْ من علْمِ ما البينُ صانِعُ
قال ابن مطروح (جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عيسى بن إبراهيم) متشوقاً إلى جبل سلع:
أعد حديث الحمى والبان والسمر
إن الأحاديث عن أهل الحمى سمري
وقف على الرند من سلعٍ، عسى خبر
يسري إلينا من الأحباب في السحر
يا بانة الجزع من وادي الأراك متى
نفوز بالظل من أغصانك النضر
ما يطلب الوجد والأشجان من دنفٍ
لم يبق فيه سوى الأنفاس والفكر
يا بان نعمان، كم لي فيك من غصنٍ؟
يا سرحة الجزع، كم لي فيك من قمر؟
وقال أيضاً:
أجيران سَلْع هل إلى طيب وصلكم
سبيل لمن فيكم يعز هجوعه؟
محبٌّ متى ما ساءل الركب عنكم
غدا الركب مشتاقاً إليكم جميعه
ويتكرر ذكر سلع كثيراً، ولاسيما في شعر المحبين للمدينة المنورة. قال الأصمعي: غنَّت حَبَابة جاريةُ يزيد بن عبد الملك، وكانت من أحسن النَّاس وجهاً ومسموعاً، وكان شديد الكلف بها، وكان منشؤها المدينة بسلع:
لعمرُكَ إنني لأحِبُّ سَلْعاً
لرؤيته ومن أكناف سَلعِ
تَقَرُّ بقربه عيني وإني
لأخشى أن يكون يريدُ بَخْعِي
حلفتُ بربِّ مكةَ والمصَلّى
وأيدي السَّابحات غداةَ جَمْعِ
لأنتِ على التَّنائي فاعلّمِيه
أحَبُّ إليَّ من بَصَري وسمعي
ويقول الشاعر:
رفقاً بها يا أيها الزاجر
قد لاح سلع ودنا حاجر
فخلها تخلع أرسانـها
على الربى لا راعها ذاعر
واذكر أحاديث ليالي مني
لا عدم المذكور والذاكر
ويرتبط أحياناً سلع مع العقيق:
ليت شعري هل العقيق فسلع
فقصور الجماء فالعرصتان
فإلى مسجد الرسول فما حا
ز المصلى فجانبا بطحان
فبنو مازن كعهدي أم ليـ
ـسوا كعهدي في سالف الأزمان
وحكي أنَّ عبد الرحمن مولى عمر لما قُبض عليه، وحمل إلى المدينة مأسوراً أمرَّ به على سلع فقال:
لعمرُكَ إنِّي يومَ سلعٍ للائمٌ
لنفسي، ولكن ما يرُدُّ التلوُّمُ
أأمكنتُ من نفسي عدوّيَ ضِلَّةً
ألهفاً على ما فات لو كنتُ أعلمُ
لو أنَّ صدورَ الأمر يُبدينَ للفتى
كأعقابهِ لمْ تلْقَه يتندَّمُ
وأما كهف سلع فقد كان عليه السلام يبيت به ليالي الخندق، وهو على يمين المتوجه من المدينة إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية في مقابل الحديقة النقيبيّة، على يمين الصاعد عليه، وأعلى منه كهف صغير في جهة المشرق. وكانت بسلع قصور مشيدة، ومساكن عديدة ومناظر حسنة الأوضاع والمسالك، وللشعراء فيها تشبيب فمن ذلك:
قصورٌ لعمري حياةٌ مضتْ
ولم نرَ بالنخل تلك القصورا
سقى الله سَلْعاً وما حوله
وسلني تجدني بسَلْع خبيرا
وقال الشاعر تشوقاً إلى سلع:
بين سلع والمصلى عربٌ
حبذا قربهم لو وُجدا
حيث ساروا ففؤادي معهمْ
أتهم السيرُ بهم أو أنجدا
يا سقى الغيث ربوعاً باللوى
كلّما راح عليها وغدا
بعُدت عيني وفي تلك المنى
قرّب الله لنا ما بعدا
وحياة الحبّ لو لا قمر
حلّ في ذاك الحمى ما قُصِدا
أنشدُوا قلبي في معهدهم
فهو لا يترك ذاك المعهدا
ودعوا جفني وإن برح بي
ودعوا شوقي إلى أن يقِدا
زر بنا سلْعاً وسلْ عن جيرة
مثلهم لم تر عيني أحداً
فإذا جئت فعرّض عندهم
بحديثي ولك النفس فِدى
ورد الماء الذي في حيّهم
فهو الماء الذي يروي الصدى
بعد ذاك المورد العذب لقد
بتُّ لا تطلب نفسي مورداً
قل لهم: لا صبر عنكم فإذا
كان بُعدٌ لا تطيلوا الأمدا
بيننا موعد وصلٍ وهم
عربٌ لا يخلفون الموعدا
ما رأينا أحداً إلا انثنى
طرباً يوم رأينا أحداً
وبدا من دون سلعٍ قمرٌ
حبه في خلدي قد خُلّدا
أشرقتْ من نوره الأرضُ لنا
فكأنّ الليل صبحٌ قد بدا
كيف صبري عن حبيبٍ قد غدا
بالمعالي والمعاني مفردا
إن عيشاً قد مضى في قربه
لست أنساه ولو طال المدى
أيها الحادي دعِ العيسَ ونمْ
قد كفاها شوقُها عمّن حدا
رقد القوم عليها وهي منْ
شوقها قد مُنعت أن ترقدا
لو تراها راقصات في الفلا
قد شجاها صوت حادٍ أنشدا
ذكرتْ سلعاً وسلعٌ منتهى
أمل السَّاري إذا ما اجتهدا
وقال الشيخ أبو بكر الرداد:
لي بأكناف طيبة بين سَلْع
والعوالي مسامرٌ وشجونُ
وحبيبٌ إذا تألّق برق
من سَنَا أرضه تفيض العيون
يا أهيلَ الحِمى وبانِ المصَلَّى
وقباب النقا بكم أستعين
وقال القيراطي:
عَرِّضا بي ربك الحجاز أسائلْـ
ـهُ متى عهده بسكَّان سَلْعِ؟
«فاتني أن أرى الديار بطرْفي
فلعلِّي أرى الديار بسمعي»
للجبل علاقة بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب فهو شاهد عليه، حيث قرر المسلمون حفر الخندق من جهة الشمال بعد أن أعطى سلمان الفارسي رضي الله عنه فكرة الخندق، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعاً خلف ظهره ويخندق من نهاية الطرف الغربي للحرة الشرقية (حرة واقم) بداية من أكمة الشيخين إلى ذباب (جبل الراية)، ثم الطرف الشرقي للحرة الغربية (حرة الوبرة). أي إلى جبل عبيد، وأتم المسلمون حفر الخندق الذي بلغ طوله أكثر من (5000) ذراع أي أقل من (3 أكيال)، وحددته بعض المصادر (2725) متراً وعرضه تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة أذرع، وبعد الانتهاء من عملية الحفر عسكر المسلمون إلى سفح (سلع) وجعلوا (سلعاً) خلف ظهرهم.
وقد حدثت قرب هذا الجبل معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وسلم، علم بها من كان في الخندق منها: تفتيت الكدية الشديدة، حيث اعترضت صخرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وهم يحفرون، فضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات فتفتت، وبشّر في الضربة الأولى بفتح قصور الشام، وفي الضربة الثانية بفتح قصور فارس، وفي الضربة الثالثة بفتح قصور صنعاء، وقد تحققت هذه البشارة التي أخبرت عن اتساع الفتوحات الإسلامية والإخبار عنها في وقت كان المسلمون فيه محصورين في المدينة، يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد.
ومعجزة تكثير الطعام الذي أعده جابر بن عبد الله رضي الله عنه، حيث أكل الصحابة وهم ألف وبقي الطعام كما هو.
ومعجزة تكثير التمر فهذه ابنة بشير بن سعد تقول: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي على أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: «تعالي يا بنية ما هذا معك؟» فقلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة يتغذيانه، قال: «هاتيه» قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له ثم دعا بالتمر عليه فتبدد فوق الثواب، ثم قال لإنسان عنده: «اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء» فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
ومن هنا يتضح مدى ارتباط جبل سلع بغزوة الأحزاب، فكم له ذكريات في سيرته صلى الله عليه وسلم المكانية، فكان مصدراً منيعاً، ونقطة مراقبة، ومكاناً للقيادة، وحري بهذا الجبل أن يبقى صامداً بعيداً عن معاول الهدم وبناء المنازل.