د. منى بنت علي الحمود
ارتبط الحب بالروح فيقال على صفحات الفلسفة إن الحب من الميتافيزيقا التي قُسمت فيها روح إلى قسمين ثم عندما التقت تعارفت والتأمت لذلك يقال للمحبوب «تؤم الروح»،كما ارتبطت عاطفة الحب بالجسد تارة أخرى؛ فهناك منظومة واقعية عقلية أو جسدية محسوسة تجعل شخصاً ما يجذبنا إلى حبه!!
غير أني لا أميل إلى الاتجاه الأخير وأرى أنه يقع ضمن حدود الإعجاب فحسب! الذي قد يكون مؤقتًا ما يلبث أن يزول بزوال المؤثر. انتشر اعتقاد بأن المحبوب يسلبك ذاتك عندما يحبك!!؛ فهو يجتذبك بكلك إليه منتزعاً حدود الذاتية والآخرية ليصهرها في قالب مشاعري يجعلك تكون للآخر فحسب؛ فهي رغبة عارمة! لأن الحب يدخل معه ياء المتكلم ومضمونها الملكية الأنانية. فيقال: «أحبك لأنك سعادتي، أو كل شيء لي...». هنا تأسر الياء المحبوب فتسلبه كله روحه ومشاعره وتجرده حتى من كيانه.. ولا ننكر ما للحب المتبادل من وقعه في التحول بالانسجام إلى الاتحاد، الذي يأخذ غالباً طابعه النفعي حيث تمتزج الاهتمامات والتفضيلات والمؤرقات!! وهنا تذوب الذات مع الآخر إيذاناً بولادة شخص هجين ينتمي إلى «نا الفاعلين». فالحب يستحق خسارة التفرد.. من جانب آخر وسم الحب بأنه رمز الحرية، فلا يحب إلا متحرر!!
وعندما أردنا أن نجازف بشرح الحب بأنه السعي للجمال الحقيقي.. ضاعت خطانا أكثر عن جادة الطريق.. فمن يعرف ما هو الجمال أصلاً!!، وعندما اتجه العقلانيون إلى ترجمة الحب على أنه البذل والتضحية والتقدير ضلوا وأضلوا فهم بذلك نزعوا عباءة الحب عنه وألبسوه عباءة مشاعرية أخرى، وقد فسر الحب على أن مقره النفس فهو متوغل فيها ولا ينتهي إلا بالموت!!، ولكن إن صح ذلك فماذا نفعل بحب الموتى؟!. والذي قد يرهقنا أكثر من حب الأحياء..
قيل إن القلب هو من يحب، ورمز للحب برسمة القلب؛ فكيف لعضو رقيق أن يتحمل هذا، ورحمة بهذا القلب..
قيل بأن الشعور بالحب إنما يبدأ من العقل الذي يرسل بعدها إشاراته للقلب.. ولعل نبضات قلب المحب بحد ذاتها كفيلة بأن تثقل على هذا العضو الضعيف!!.
ويقف الخوف كعادته عجوزاً شاحبةً تتربص بكل مولود للمشاعر لتوئده حياً.. فالخوف مبعثر للفرح وللحزن أيضاً، وهو عدو للبوح والسكوت.. يحجبنا عن الإحجام والإقدام معاً، ويميتنا على كف الحق والباطل.. كل هذا ليس لشيء إلا أن يدعنا في عجز مثله!!، وأرى أن الخوف هو عدو الحب وليس الكره.. حيث أرق الخوف من الحب بعض الفلاسفة مما دفع ببعضهم إلى أن يصنفوه من الابتلاء؛ وأنه يورث العلة والمرض؛ فثاروا إلى دعوة جائرة للبعد عن الحب ومقاطعته بل ومقاومته!!.. ولكن هيهات هيهات لهم.
من لا يعرف الحب.. عليه أن يعلم بأن الحب هو نكرة معرفة بذاتها.. هو هبة مقدسة لا يمكن ردها.. هو صفاء لا يعرف مداه، وفراغ لا يُملأ بغيره.. لا أصل لكلمة الحب لأنها أصلاً بذاتها. الحب نكرة لمن تحبه ومعرفة لديك.. الحب ليس له معنى فهو المعنى لكل شعور.. الحب ليس جسداً ولكنه سكن في كل جسد.. ليس للحب عمر فهو مخلد حتى بعد الموت.. فكم أحببنا الأموات.. بل وهناك الكثير ممن لم نحبهم إلا بعد أن ماتوا فهو أسطورة مخلدة.. الحب عابر للثقافات والحدود.. الحب ليس له مقدمات يأتي فجأة فهو الهبة السحرية.. المحبوب هو العلة والمعلول.. الحب ضيف مقيم إذا أتى من المستحيل أن يذهب.. للحب نكهة لا تشبهها أي نكهة.. وله مزاج لا يشبهه أي مزاج.. لا يعكر صفوه شيء بينما هو ينتشر في كل شيء ليغيره تماماً.. لا يرتبط بالحكمة فمتى ما ارتبط بالعقل أفسده العقل أو أذهبه الحب!!؛ فعندما تريد التعبير عن الحب تكون قد استخرجت حرفك من مشاعر تتحدى عقلك!!؛ فهو لا يدرك بعقل ولا يفسر بمنطق.
وأخيراً: فمن حسنات الفلسفة أنها لا تجيب عن السؤال بل تثيره فحسب.. فمن يقدم على قول الحب هو: ... سيجد نفسه عاجزاً أمام مأزق لا يحمد عقباه؛ فمن الصعوبة أن تشرح ماهية الحب!؛ فلا يعرف معناه إلا من عاناه، ولا يقوى على شرحه إلا من هو داخل دائرته فحسب، ولكن كيف لك أن تخترق هذه الدائرة الذاتية لتسمعه!!.