د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما يحل موسم الربيع تمتلئ الأنفس بالأمل، وانتظار هطول المطر، وتورق الأشجار، وينبت العشب، وتتناثر الزهور بألوانها المختلفة الزاهية، فتطمئن الانفس، وتسعد القلوب، ويتجمع الأحباب، وتمتلئ بالحب الألباب، وتتوق الروح إلى الإبحار في عالم آخر غير ذلك الذي اعتادت عليه، وألفته طيلة العام، من تقلب الأيام، وتنازع الجسد صروف الزمان.
شهر رمضان موسم من مواسم المحبة، والروحانية، وجني الأرباح، فيه زاد الافئدة، وشراب العقول الراشده، تمتلئ فيه القلوب بالإيمان، والبعد عن ما يغضب الديان، أحلام لذوي الحلوم، واعتبار لأصحاب العقول والعلوم، اجتهاد في العمل، وترتيب للوقت دون كلل.
يأنس الانسان فيه بسماع القرآن، وترتيله مع التبصر بدقة البيان، فلا اختلاف في لفظ، ولا تنافر في معنى، وإنما سبك بديع، وموعظة لمن يسمع ويطيع، قصص للاخبار والعبرة، وأوامر ونواهٍ لنجاة العباد، والتزود ليوم الحساب، فيه تشريع لما فيه مصلحة الناس، ومحاربة الوسواس، ومتعة بجمال العبارة، وبعد المعنى مع يسر القول، فهو قول الله عز وجل الذي انزله على رسوله الكريم محمد بن عبدالله، النبي الأمين، ليبلغه للبشرية جميعاً، فيتبعه من أراد الحق، وينصرف عنه من اطاع هواه، وضل عن طريق الصواب، وحاد عن جادة الفائزين، بخير الدنيا والدين، ترتيله عبادة، وتغنٍ ومتعة، وعبرة واعتبار، وتقويم لسان، وتسهيل بيان، ومناجاة جنان، لا يمل المرء من قراءته في شهر رمضان، وكانهما صنوان لا يفترقان، ينتهز المؤمن في هذا الشهر الكريم كل فرصة متاحة لقراءة ما تيسر، حتى وان كان لبضع دقائق، ترى الناس في المساجد والمكاتب، والمنازل، منكبين على تقليب صفحاته، سعيدين به، وبما فيه.
لم يكن الامتناع عن الطعام والشراب، سوى طاعة للرحمن، و زيادة في الايمان، وصحة في الابدان، استشعار بأن هناك من يتضور جوعاً، لا يجد ما يأكله، ويعيش على الكفاف، وهناك من يلهث وراء لقمة عيش في أماكن ترمى فيها فضلات الأغنياء، واستشعار بأن هناك من دفعت بهم الحروب إلى بلاد غير بلادهم، ينتظرون مؤسسات خيرية رسمية أو غير رسمية لتعطيهم ما يكفيهم للبقاء على قيد الحياة فحسب، ربما يكونون جماعات قد تتكون من أسر كثيرة فيهم الزوجة والاطفال، يزدحمون في مكان واحد، ينتظرون بفارغ الصبر وجبة لم يختاروها، وربما أنهم قد تركوا بيوتاً واسعة أو ضيقة، سيان فالحالة الجديدة واحدة، فقد جمعتهم ظروف الحرب في بوتقة واحدة، مثلما أن الصيام قد جمع الأغنياء والفقراء للامتناع عن الأكل والشرب في نهار يوم رمضان، لا فرق بين غني وفقير.
في الشهر الكريم يتلمس من لديه زكاة، أو فائض مال، حاجة محتاج بادئاً بذوي الأرحام والجيران، ثم المعارف وغيرهم، مجتهداً في تلمس معرفة منهم اكثر عوزاً وحاجة، والمسلم بطبعة، والغالب على أمره، أنه معطاء عطوف، لا يبخل قدر المستطاع، وهذا ناشئ من التربية والثقافة التي تصب في السعي إلى مرضاة الله، والتقرب إليه بالطاعات، ومن اهمها تنفيذ فرض الزكاة، وبعد ذلك الصدقات والهبات، سواء المباشرة مع التأكد من أوجه صرفها أو من خلال المؤسسات الرسمية.
التواصل الاجتماعي في الشهر الكريم صفة من صفاته، وميزة من مميزاته، فالعائلة التي قلما تجتمع في الايام العادية، يتيح لها الشهر الكريم اللقاء على مائدة الافطار في الغالب، لكن مع الاسف الشديد إن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة تجعل اللقاء بالجسوم فقط، فغالباً ما ينشغل كل فرد بهاتفه النقال يرد به على رسالة، أو يشاهد مقطعاً، أو ينشغل بمنظر، وكأن على رؤوسهم الطير، الا ما رحم ربي، وهذا يقلل من متعة الاجتماع، وتبادل الآراء الثقافية والاجتماعية، ليستفيد الجميع، أو حتى الاكتفاء بالمزاح والتعليق، واطلاق الضحكات، والترويح عن النفس.
الصلاة كما الزكاة وقراءة القرآن، من أساسيات الشهر الكريم الملازمة له منها ما هو فرض في الشهر الكريم، وغيره، ومنها ما هو سنن خاصة بالشهر الكريم، وهي التراويح والقيام، والحقيقة أن صلاة التراويح فيها متعة خاصة لأنها تجعل الانسان مرتبطاً أكثر مدة بربه يدعوه ويناجيه دون ملل، راجياً ما عنده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (سيستجاب لكم ان لم تستعجلوا)، والصلاة المفروضة في ذاتها عبادة وركن من اركان الاسلام، وأما النوافل ومن ضمنها التراويح فهي فرصة للاستزادة من الخير في شهر كريم، تكون الدعوة فيه أقرب إلى الاستجابة.
الإيمان أجمل شيء في الوجود، لأنه نافذة مضمونة إلى حياة اخروية أفضل وأجمل، وحياة دنيوية، اقل هماً، لأن صاحب الايمان الصادق يكون أقرب إلى اليقين والتوكل المطلق، مما يجعله أكثر راحة وطمأنينة، جعلنا الله وإياكم من المؤمنين الصادقين والموقنين.