محمد هليل الرويلي
لدى علم «الثقافية» أن الباحث الأستاذ (راشد بن محمد الشعلان) انتهج أسلوبًا بديعًا، في تقديم حوارياته، مع عدد من الشخصيات الأدبية العربية التاريخية، تواصلت معه مستكشفة كنه هذا الأسلوب البديع الذي اعتدته واختطه، في مقابلاته مع شخصياته المؤتلفة والمكونة من عدد من الأدباء والشعراء والكتاب الروائيين والقاصين العرب، ممن شغل إبداعهم وحضورهم زمناً حافلًا، وفاعلًا، المحافل الثقافية العربية؛ ونتاجاتهم من الكتب والمؤلفات التي تناولت (الفكر والنقد والشعر والسرد..) فأثروا بأثرهم، ومَوْرث كعبهم العالي؛ الموشوم منه العديد من زوايا المكتبات الثقافية والأدبية على امتداد الوطن العربي والعالمي. إذ كان تأثيرهم وأثرهم هذا -زمنًا ولا يزال- الباعث لحراكنا العربي، بتنوع تجاربه (الفكري والنقدي والإبداعي).
(شعلان) الذي استجاب مشكورًا لدعوة الثقافية، نشر إحدى أوراق حوارياته الافتراضية، ضمن سلسلة يقدمها بحول الله تعالى، فكان هذا الحوار الظريف مع (حافظ إبراهيم) سيرة غيرية.
- حوار ظريف مع حافظ إبراهيم.. سيرة غيرية
- بقلم: راشد محمد الشعلان
- أهلًا ومرحبًا بك أستاذ حافظ في هذا اللقاء، وأشكرك على إتاحة هذه الفرصة الذهبية لي.
- يا أهلا بك أستاذ راشد.
- أستاذ حافظ، ممكن تعرفنا بنفسك.
- يا أستاذ راشد، بكل سرور.
أنا محمد بن حافظ بن إبراهيم بن فهمي ولدت عام 1872 م في ديروط بمحافظة أسيوط.
- إذن أنت صعيدي!
- نعم يا أبا عبدالله، وأفتخر بالصعيد.
- أنعم بك يا أستاذ حافظ، وبكل الصعايدة.
- كان مهندساً كبيرًا.
- وماذا عن نشأتك؟
- سأقول لك طرفة: أنا ولدت في سفينة كانت ترسو على نهر النيل!
- ما شاء الله تبارك الله، إذن أنت ولد نعمة!
- نعم نعم، كنت سأكون ولد نعمة، ولكن والدي توفي رحمه الله وأنا ابن أربع سنين.
- رحمه الله، معنى هذا أنك نشأت يتيماً!
- بعد وفاة والدي عشت مرحلة اليتم والحرمان، فانتقلت مع أمي للعيش في بيت خالي في القاهرة.
- خالك أيضاً كان مهندسًا؟
- نعم يا أبا عبدالله.
- وماذا عن دراستك؟
ألحقني خالي بالمدارس النظامية، لكن ما إن وصلت إلى المرحلة الثانوية حتى توقفت!
- الذي عرفته من حساب تويتر لمحمد إسماعيل كاتي الذي قدَّم الطبعة الثانية من ديوانك، أنك تمردت على المدرسة في المرحلة الثانوية، هل ما غرًّد به كاتي كان صحيحاً؟
- نعم يا أبا عبدالله، فالتعليم في المرحلة الثانوية لم يشبع نهمي، ولم يتفق مع ميولي ولاسيما في المطالعة والأدب!
في هذه المرحلة بدأت موهبتي الأدبية تتكون!
- وكيف نمَّيتها؟
- نميتها عن طريقين، الأول:
بحضور دروس علوم اللغة والشريعة في جامع الأحمدي في طنطا، يا أبا عبدالله هذه الدروس هي التي صقلت موهبتي.
- هذا الطريق الأول.. وما الطريق الثاني؟
- الطريق الثاني هو: المطالعة والقراءة في دواوين الشعراء ولا سيما في العصر العباسي، وكذلك قراءة كتب التراث والأدب يا أبا عبدالله -الحمد الله- لقد أعطاني الله ذاكرة قوية، فأنا أحفظ الكثير الكثير من أشعار العرب في جميع العصور، وما نظرت في كتاب من كتب التراث إلا وحفظته، ومنها: العقد الفريد، والبيان والتبيين
والشعر والشعراء، والكامل، هذه أحفظها عن ظهر قلب.
- ما شاء الله عليك يا أستاذ حافظ، ليتك تعطيني (شوي)
فأنا كنت أحفظ الكثير من أشعار العرب، ولكني بدأت في نسيانها منذ تركت التدريس!
يا أستاذ حافظ، أنت تمردت على الدراسة في المرحلة الثانوية، وكان هذا التمرد هو بداية المشكلات بينك وبين خالك الذي كان حريصًا جدًّا على دراستك.
- نعم نعم، خالي كان يريد أن أكمل دراستي, وقد أوضحت له أن التعليم الثانوي لا يناسب طبيعتي ولا ميولي, ولكنه لم يتفهمني, وأخذت المشكلات تكبر بيني وبينه فأصبح عنيفًا معي في كل شيء، حتى هربت من البيت!
- لقد غرد كثير من النقاد في حساباتهم أنك كتبت بعض الأبيات.
- في ورقة لخالك قبل أن تترك له البيت.
- نعم يا أبا عبدالله.
- ممكن تذكرها لنا.
- أبشر يا أبا عبدالله:
ثقلت عليك مؤونتي إني أراها واهية
فافرح فإني ذاهب متوجه في داهية
- وإلى أين ذهبت؟
- ذهبت أبحث عن العيشة، وأعتمد على نفسي في كل شيء، فقد عملت في المحاماة.
- عملت في المحاماة وأنت لا تملك مؤهلاً في المحاماة!
- لم يكن في ذلك الزمن أي شروط للمحاماة، وكما تعلم يا أبا عبدالله أنا والحمد الله أملك ثروة لغوية كبيرة، وأملك أيضًا قدرة على التأثير والإقناع.
- يا أستاذ حافظ لكنك ما أطلت في المحاماة، على الرغم من أنك انتقلت بين مكاتب محاماة متعددة، وهذا ليس كلامي إنما كلام عبدالعزيز البشري.
- يا أبا عبدالله هذا صحيح، وسأقولها لك بكل صراحة لقد فشلت في المحاماة لأنها ليست (جوي) فهي جرائم قتل، وسرقات، وكذب وتزوير، وأنا إنسان عاطفي.
- وأين ذهبت بعد أن تركت المحاماة؟
- دخلت الكلية الحربية، وتخرجت فيها ملازمًا؟
- الدكتور أحمد أمين قال: إن سبب دخولك العسكرية هو: جسمك! فأنت طويل جدًا وعريض الكتفين، وجسمك مشدود، وهذه مواصفات العسكرية.
- يا أبا عبدالله، الدكتور: أحمد أمين رجلٌ أهبل، غفر الله لنا وله!
- يا أستاذ حافظ، لكن العسكرية ليست (جوك)
- يا أستاذ راشد، لقد جلست فترة طويلة بدون عمل، حتى توسط لي نسيبي للدراسة في الكلية الحربية، ودرست وتخرجت ملازمًا، عملت فترةً ضابطًا في وزارة الداخلية, ثم تم انتدابي مع فرقة حربية مع الجيش في السودان.
وهناك يا أبا عبدالله، عشت الكآبة كلها إلى أن أصبحت نفسيتي تحت الصفر! وأزيدك من الشعر كآبة وبؤسًا: فقد تم اتهامي مع مجموعة من الضباط بتهمة القيام بثورة ضد الاحتلال الإنجليزي!
يا أبا عبدالله، الإنجليز هم الذين كانوا يحكمون البلد!
- وماذا حدث بعد ذلك؟
- لقد ثبتت براءتي، ومع ذلك أحالوني إلى التقاعد وعمري (24) عامًا! لقد أصبحت يا أبا عبدالله بدون عمل، وبمرتب تقاعدي لا يكفي (صحن فول).
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. وماذا صنعت؟
- أصبحت أعيش على مساعدات المحسنين!
- المحسنين!
- نعم يا أبا عبدالله، ومنهم الشيخ الإمام محمد عبده الذي تبناني، وعطف علي وأصبحت لا أغادر مجلسه، وفي ذلك المجلس تعرفت على كبار رجال البلد وبعدها رُزقت بوظيفة مرموقة في دار الكتب الوطنية!
- الحمد الله, ومبارك يا أستاذ حافظ على هذه الوظيفة التي جاءت بعد مراحل من الفشل والإحباط.
- يا أستاذ حافظ، نريد أن نغير الجو خصوصًا بعد مراحل الفشل والبؤس والاكتئاب. كل أصدقائك يقولون عنك: إنك رجل ظريف، وشخصيتك ضاحكة، وروحك مليئة بالمرح والفكاهة. وقالوا أيضاً: حيث كان يوجد حافظ يوجد السرور، وتعلو الضحكات، والقهقهات التي تنبعث عالية حتى من أشد الرجال وقارًا!
يا أبا عبدالله، هذا صحيح، أحزاني لنفسي، أما مجالسي فهي للناس ولا أريد أن أشغل الناس بأحزاني، لا أريد أن أثقلهم بأحزاني إطلاقًا، لذلك كنت أخرج لأصدقائي وأنا في قمة الفرح, بل إني كنت أعالجهم من بؤسهم وكآبتهم بالطرافة والملح النادرة التي تسمونها الآن (طقطقة).
- أعطنا من هذه الطقطقة بارك الله فيك.
في إحدى المرات زرت صديقي أحمد شوقي في بيته، ورأيته مكتئبًا بائسًا فقلت:
يقولون إن الشوق نارٌ ولوعـةٌ
فما بال (شوقي) أصبح اليوم باردا
فخرج من بؤسه واكتئابه، ودخل معي في الطقطقة! وقال:
وأودعتُ إنساناً وكلباً وديعةً
فضيّعها الانسانُ والكلبُ (حافظُ)
- أضحك الله سنك!
ننتقل الآن إلى مرحلة مهمة في حياتك الشعرية، وهي المرحلة التي كانت فيها مصر ترزح تحت الاحتلال الإنجليزي
وفيها جاهدت بقصائدك التي الهبت الشعب لجهاد الإنجليز.
لقد أضفت هذه القصائد على شعرك هالة من العظمة والمجد، وكنت فيها خير ترجمان للشعب في أحاسيسه وآماله، وفي هذه المرحلة لقبك النقاد: بشاعر النيل!
ليتك يا أستاذ حافظ، تنشدنا بعضًا من هذه القصائد.
- حبا وكراحة يا أبا عبدالله، وأنا واحد من الشعب أعيش مع أحزانه، مع آلامه، وأكبر جرح مر على الشعب هو الاحتلال الإنجليزي!
فنظمت بعض القصائد أدعو فيها إلى محاربة المحتل بكل وسيلة، اسمع هذه الأبيات مثلاً:
حولِوا النيلَ واحجبوا الضوءَ عنا
واطمسوا النجمَ واحرمونا النسيما
إننا لن نحول عن عهد مصر
أوترونا في التراب عظمًا رميمُا
- ياه يا أستاذ حافظ، قصائدك هي ما جعل الشعب المصري يتحول إلي حِمم بركانية تتفجر في وجه العدو!
الغريب أيضًا، إنك أنت الشاعر الوحيد الذي نظم قصيدةً تسخر فيها من الإنجليز بعد حادثة دنشواي, حتى شوقي لم ينظم فيها شعرًا إلا بعد سنة!
ليتك تحدثنا عن هذه الحادثة، كانت هذه الحادثة عام 1906م عندما راح خمسة من الضباط الإنجليز إلى قرية دنشواي لصيد الحمام في مزارع القرية، ولكنهم صادوا امرأة كبيرة في السن كانت تحرث زرعها، صادوها رميًا بالرصاص!
فانفجرت نفسي بهذه الأبيات الساخرة:
وإذا أعوزتكم ذات طوق
بين تلك الربا فصيدوا العبادا
إنما نحن والحمام سواء
لم تغادر أطواقنا الأجيادا
- لكن يا أستاذ حافظ، هذه الأبيات فيها ذلة وخضوع للمستعمر!
- هذا فهمك يا أبا عبدالله! وقتها كنا في حالة ذل وضعف، حتى أحمد شوقي ما نظم بيتاً واحداً في هذه الحادثة، لذلك جاءت قصيدتي بأسلوب ساخر، لعله ينجح في إثارة الشعب ضد الإنجليز!
- بيض الله وجهك يا شاعر النيل.
أستاذ حافظ، لقد عرفت من أصدقائك أنك كنت كريماً جداً جداً، وأنك لا ترد أحد من السائلين أبداً، وقد غرًّد محمد إسماعيل كاتي بتغريدة عجيبة عن كرمك.
- ما هذه التغريدة يا أبا عبدالله؟
- ذات مرة وأنت في القهوة مع بعض أصدقائك جاء أحد السائلين يسألكم أن تعطوه، فأعطيته محفظتك!
وقلت له خذ منها ما تشاء وأعدها، فأخذها هذا السائل وأخذ منها ما شاء، ثم أعاد المحفظة إليك ولم تنظر فيها، بل أعدتها إلى جيبك مباشرةً!
- الله يتقبل يا أبا عبدالله، أنا بعد أن عضني الجوع أصبحت لا أتحمل منظر أي فقير أو محتاج!
- بيض الله وجهك يا أبا إبراهيم، والله يتقبل منك.
يا أبا إبراهيم عندي سؤال، لكن أرجوك لا تزعل علي!
- لا لا يا أبا عبدالله، فأنا ارتحت إليك من أول نظرة، وأيضاً أحمد شوقي حدثني عنك كثيرًا، وأنك أحد المعجبين بكل قصائدي، تفضل يا أبا عبدالله ما هذا السؤال (المنيل) الذي تريد أن تسأله؟
- لقد غرَّد بعض النقاد، ومن ضمنهم شوقي ضيف: أن حصيلة حافظ الخيالية حصيلة ضحلة أو محدودة، لذلك لم يًجدد في المعاني والصور الخيالية.
- يا أبا عبدالله، هذا (هراء) أنا أخاطب الشعب بشعري ولا أخاطب النخب المثقفة، لذلك أنا أتخير الألفاظ والعبارات والأساليب السهلة، وتركت المعاني المعقدة والصور الصعبة التي لا يفهمها عامة الناس.
- لذلك لقبك محبوك بشاعر الشعب!
- هذا من فضل ربي يا أبا عبدالله.
- أنا يا أبا إبراهيم، عندما قرأت ديوانك، يكيت من كثرة قصائد الرثاء، فقد أخذت نصف ديوانك، ومع أنها مراثي رائعة لكن كثرتها لفتت نظري، هل أنت شاعر البكاء أيضًا؟
- يا أبا عبدالله أرجو الاَّ تفهمني خطأ، فالرثاء عندي ليس حالة فردية، وإنما هو مأساة اجتماعية تهم الشعب كله!
- يا أبا إبراهيم لقد أعجبني رثاؤك لمحمود سليمان باشا عندما قلت:
لا تحملوه على الرقاب فقد كفى
ما حُمِّلت من منَّة وعطاء
وذروا على نهر المدامع نعشه
يسري به للروضة الفيحاء
- من ذوقك يا أبا عبدالله!
- يا أبا إبراهيم، هناك من النقاد من أطلق عليك لقب شاعر الأخلاق! وهناك دراسات كثيرة بحثت في الأخلاق في شعرك، لكثرة ما طرقت هذا الجانب فيه!
- تسلم يا أبا عبدالله، والشعر عندي رسالة سامية لمحارية كل رذيلة، لقد شهد مجتمعنا تدهورًا أخلاقيًا مشينًا!
- لقد شكلت القم الإنسانية الحيز الأكبر في شعرك الاجتماعي والأخلاقي، ليتك تنشدنا شيئًا من ذلك.
- أبشر يا أبا عبدالله في أي جانب من القيم والأخلاق تريد؟
عطنا بيتًا في الوفاء (الذي كاد يختفي في عصرنا!)
نظمت قصيدةً في صديقي محمد المويلحي منها:
لك في دمي حقٌ أردت وفاءه
يوم الوفاء فقصرت أشعاري
- يا سلام على الوفاء يا أبا إبراهيم!
ونحن في شعر الأخلاق لن أنسى أبياتك الشهيرة عن الأم.
يا أبا عبدالله، باختصار شديد، (الأم بركة من بركات الله في الأرض)
والأم يا أبا عبدالله، إن صلحتْ صلح المجتمع.
الأمُ مدرسةُ إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأمُ روضٌ إن تعهـده الـحـيـا بــالــري أورق أيــمــاً إيـــراق
- ننتقل الآن يا أبا إبراهيم إلى الإبهار والعظمة في قصائدك الخالدة! قصائدك التي انتشرت في العالم العربي، ورددها الصغير والكبير ونبدأ بقصيدة (العُمرية ) التي سجلتْ فيها سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- يا أبا عبدالله هذه القصيدة تتكون من (187) بيتًا، وهي تتحدث عن سيرة الخليفة عمر بن الخطاب من إسلامه إلى استشهاده، تحدثت فيها عن أخلاقه، عن زهده، عن عدله، عن شجاعته، عن كل صفاته العظيمة!
- لكن لم اخترت الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون غيره من خلفاء المسلمين؟ هل لأن مصر فُتِحت في عهده؟
- لا أدري، ولكنها كانت في ساعة تجلي يا أبا عبدالله!
- هل صحيح أنه خُصِص احتفالٌ لإلقائك لها؟
- نعم يا أبا عبدالله، وكان ذلك الاحتفال في مدرج وزارة المعارف
عام 1818م بالضبط في يوم الجمعة 8- فبراير.
- تذكرت الآن يا أبا إبراهيم، وقد حققت تلك القصيدة أعلى المشاهدات في اليوتيوب في ذلك العصر وما زالت، وإلقاؤك زادها جمالًا وإبداعًا.
- من ذوقك يا أبا عبدالله، وأنا –الحمد الله- ألقي قصائدي بنفس، وإلقائي حصل على إعجاب النقاد، وعامة الشعب والله الحمد، ولا تنسَ أنني دربتُ مجموعة من الخطباء والشعراء على فن الإلقاء!
- ليتك تنشدنا بعض أبيات هذه القصيدة.
- حبًا وكرامة يا أبا عبدالله:
حَسبُ القَوافي وحَسبي حين أُلْقيها
أَنِّي إلى ساحَةِ الفاروقِ أُهْدِيها
ويومَ أسلَمتَ عَزَّ الحَقُّ وارتَفَعتْ
عن كاهِلِ الدِّينِ أثقالٌ يُعانيها
وصاحَ فيه بِلالٌ صَيحَةً خَشَعَتْ
لها القُلوبُ ولَبَّتْ أمرَ بارِيها
فأنتَ في زَمَن المُختارِ مُنجِدُها
وأنتَ في زَمَنِ الصِّدِّيقِ مُنْجِيها
- ياه والله إن هذه القصيدة فيضٌ من نور!
هذه قطعة فنية خالدة، وألفاظها ومعانيها امتلأت نورًا وجلالاً، على فخامتها إلاَّ إنها تذوب رقةً وعذوبةً، وفيها تجلت روحك إلى العيش مع ذلك الجيل الذي امتلأت قلوبهم نورًا وإيمانًا.
- يا أبا إبراهيم، لقد قال لي أحمد شوقي عندما حاورته:
وددتُ أن قصيدة (العُمرية) لي
وأتنازل لحافظ عن نصف ديواني!
- يا لبَّي قلب أحمد شوقي يا أبا عبدالله، أحمد شوقي أمير، وأنت أيضًا أمير!
- تسلم يا أبا إبراهيم!
نذهب الآن إلى قصيدة أخرى خالدة، وهي لا تقل جمالاً عن العمرية وهي قصيدة: اللغة العربية تتحدث عن نفسها، التي استخدمت فيها أسلوب التشخيص، وجعلتها تتحدث عن مأساتها، وما تتعرض له من اتهامات وظلم من أعدائها، وجعلتها تستصرخ قومها لعلَّ وعسى أن يدافعوا عنها!
- يا أبا عبدالله، لقد نظمت هذه القصيدة، في ظروف عصيبة، فأكثر بلاد العرب والمسلمين ترزح تحت الاحتلال الأجنبي، وهذا الاحتلال لا يحاربنا بأدوات الحرب العسكرية فقط!
- ما فهمت يا أبا إبراهيم، ممكن توضع أكثر.
- الاحتلال له أساليب خبيثة من أهمها:
محاربة اللغة العربية، وهي وسيلتهم للقضاء على القرآن الكريم!
أيضًا يا أبا عبدالله، هناك أناس من بني جلدتنا همزوا، ولمزوا لغتنا في أوساط رسمية، وفي الصحف، تخيل يا أبا عبدالله، بعضهم نادى باستخدام العامية، وبعضهم نادى باستخدام الحروف اللاتينية محل الحروف العربية!
أي سحف هذا يا أبا عبدالله؟!
- يا أبا إبراهيم بيَّض الله وجهك، ليتك تنشدنا بعضًا من أبيات القصيدة.
- أبشر يا أبا عبدالله!
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِـي
وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِـي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَنـي
عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتـي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغـايـة
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظــاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلـة
وتَنْسِيقِ أسمــاءٍ لمُخْترَعـــاتِ
- ياه يا أبا إبراهيم، هذه صرخة من قلب غيور على لغة القرآن الكريم، لا فض فوك!
وأسأل الله أن يرفع درجاتك بها في الجنة.
- آمين، وإياك يا أبا عبدالله، فأنا قلبي انشرح لك من أول ما رأيتك!
- يا لبًّى قلبك يا أبا إبراهيم، وأبشرك أصبح للغة العربية يومٌ عالمي، تقام فيه البرامج والمحاضرات والاحتفالات باللغة العربية!
- يا أبا عبدالله، هذا كله (لا يكفي) لأن كل ما ذكرته لا فائدة منه!
فلا قرارات مُلزمة، ولا برامج مستمرة، إنما هو احتفال اليوم الواحد!
ثم تعود حليمة إلى عادتها القديمة!
يا أبا عبدالله، حتى تعود لغتنا إلى قوتها نحتاج إلى قرارات تفرض من أعلى جهة في الحكومات العربية.
هل يرضيك أن تستخدم اللغة الإنجليزية على لافتات المحلات التجارية؟
هل يرضيك أن تستخدم اللغة الإنجليزية في مطارات العرب، وأسواقهم وقهواتهم، ومنتدياتهم، وشركاتهم؟
هل يرضيك أن يُغَرِّد دكاترة متخصصون في اللغة العربية باللهجة العامية؟!
- أحسنت يا أبا إبراهيم!
قبل أن نختم هذا الحوار، لفت نظري قلَّة شعر الغزل في ديوانك!
- يا أبا عبدالله.. أولاً: ديواني ما وصل إليكم كاملاً.
ثانيًا: لقد شغلتني الأخلاق وشغلني الاحتلال عن الغزل!
- يا أبا إبراهيم، لا يخلو شاعرٌ من صبوات! أعطنا ولو بيتًا واحدًا.
- أبشر أبا عبدالله!
أعِرني فؤادًا منكَ يا دَهرُ قاسيًا
لو انَّ القلوبَ القاسياتِ تُعارُ
- ياه يا أبا إبراهيم!
- هذا البيت قنبلة عاطفية تتفجر في قلوب العشاق!
في نهاية هذا الحوار، هل تريد أن تقول شيئًا يا أبا إبراهيم؟
إِنّي لَتُطرِبُنـي الخِـلالُ كَريمَـةً
طَرَبَ الغَريـبِ بِأَوبَـةٍ وَتَـلاقٍ
فَإِذا رُزِقـتَ خَليقَـةً مَحمـودَةً
فَقَدِ اِصطَفـاكَ مُقَسِّـمُ الأَرزاقِ
- ما هذا العسل يا أبا إبراهيم؟!
ما هذه العذوبة؟!
- من ذوقك يا أبا عبدالله!
- في ختام هذا الحوار الماتع الذي أبهجتني به، يسرني أن أتقدم لك بالشكر والتقدير، وبالدعوات الصادقة بأن يرزقك الله الفردوس الأعلى في الجنة.
- آمين يا أبا عبدالله، وأرجوك لن أسمح لك أن تذهب إلا بعد أن تتعشى معي, وسأتصل الآن بأحمد شوقي, وعبدالعزيز البشري ليتعشوا معنا، فأنا أعرف أنك تحبهما كثيرًا.
أرجوك يا أبا عبدالله، قل تم!
- تم، يا أبا إبراهيم والله يغنيك ويكثَّر خيرك!
وفي يوم21 يونيو1932 وصلنا خبر وفاة حافظ إبراهيم، عن عمر يناهز 60عامًا. رحمه الله تعالى وغفر له ورزقه الفردوس الأعلى، فرثاه صديقه أحمد شوقي بقصيدة باكية.
** **
Rashedsh75@gmail.com