كان الإعلام والأدب الغربي ولازال ينكر وجود عولمة «بديلة» غير العولمة الأميركية. ويبث سمومه في الوعي البشري كله أن لا بديل للاستعباد، بل سيتكرس هذا الاستعباد أكثر فأكثر ليخنق كل من تسول له نفسه الخلاص منه. بيد أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شقت القبور التاريخية والجغرافية عن الحقيقة المغيبة. وشمرت التكنولوجيا الحديثة عن ساعديها فأخرست كل أبواق التدليس والتزييف التي لوثت الوعي البشري لقرون خلت.
معظم العقول المسوقة للرذيلة كانت تروج أن استعباد الشركات عابرات القارات للبشر هو «قَدَر» لا مفر منه. وأن سقوط الاتحاد السوفييتي هو «نهاية التاريخ». ولا وجود لصراع بين ظالم ومظلوم بعد ذلك السقوط، إنما هو «صراع الحضارات». وكرسوا أقلامهم وأقوالهم المسمومة لبث اليأس في النفوس. بل وصفوا روسيا شماتة بأنها تحولت من مصدّر للفكر اليساري، إلى مصدّر «للعاهرات». إنهم ليسوا منظرين للرذيلة وحسب، إنما حاقدون حقداً أسود على كل مظهر من مظاهر التحرر من الاستعباد.
العلاقات المتراكمة تاريخيا وجغرافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا بين بقاع الأرض كافة؛ أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك؛ ومنذ بداية التاريخ؛ أن العالم قرية صغيرة؛ وأنه بأمس الحاجة للترابط الجيوسياسي؛ أي «العولمة». ولكن محاولة المافيات الاقتصادية «العظمى» لصبغ العولمة بلون واحد: هو «سيادة» الظالم و»سحق» المظلوم، لن يمر بعد تجلي الحقيقة. فالعولمة التي بدأت تنتصر وبقوة: هي تلك التي تستهدف حماية إنسانية البشر وتنميتها، وليس تلك التي تحول البشر إلى آلات لإنتاج «الربح». وهذه العولمة المنتصرة تحتاج إلى نظام دولي جديد؛ يحفظ حقوق الجميع دون استثناء؛ وليس نظاماً ومؤسسات دولية مزيفة؛ تدعم الهيمنة الأحادية والاستبداد والظلم.
يقال إن «الحرب» هي احدى الوسائل السياسية! ... وهذا كلام صحيح، ولكنه لم يعد كافياً منذ زمن بعيد! حيث أصبحت الحرب وسيلة للتدمير وإعادة البناء! وذلك من أجل منع الازدهار الذي ينقل المظلوم إلى أفق أفضل للدفاع عن كرامته! وأصبحت الإبادة وسيلة لتأمين غذاء أكثر لأصحاب الكروش! وشمر محامو الرذيلة عن سواعدهم لتكريس الإبادة الجماعية! فظهر الكثير من أمثال القاعدة وداعش وذوي «الثورات الملونة» كتيبة «آوزوف» وغيرهم، ليبدأوا حربا عالمية «ثالثة» تبيد كل من يحاول التخلص من الاستعباد وفرض سيادته.
لم تفلح شراذم التكفير والحرب بالنيابة في إيقاف الزمن! وافتضح أمر التضليل والتدليس والمؤامرات والكذب! وشقت عولمة الحقيقة طريقها نحو الوعي البشري، ولم يبق لمطبلي «الديمقراطية» الأميركية ورقة توت يتسترون بها! بل فشلت كل محاولات شيطنة الصين وروسيا وغيرهم بالنباح الإعلامي، ولم يبق إلا المنازلة الميدانية المباشرة.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح حالياً: هل ستبقى شعوب أوروبا مستكينة لحكومات خائنة لمصالح بلدانها؟ وإذا اندلعت احتجاجات وسقطت تلك الحكومات، هل سيبقى النظام الرأسمالي العالمي ممسكا بمؤسسات دولية تحافظ على هيمنته الأحادية.
الإجابة عن هذه التساؤلات مرهونة بالزمن. ولكن الذي لم يتوقعه أحد؛ بما في ذلك روسيا؛ أن الأحداث تتسارع لهذه الدرجة؛ وانكشاف عورة النظام الرأسمالي العالمي وضعفه لن تدع مجالا لإيقاف هذه الحرب! فهي تخطت حدود أوكرانيا سياسياً؛ وستتخذ أشكالاً أخرى أشد إيلاما بعد للرأسمال بعد توقف العمليات العسكرية في أوكرانيا.
** **
- د. عادل العلي