أما قبل:
النص آلة كسلانة تتطلب من القارئ اشتراكاً حثيثاً لملء فضاءات المسكوت عنه) امبير تو إيكو
يعد التفكيك deconstruction أهم حركة نقدية بعد البنيوية في النقد الأدبي الحديث فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل على الساحة النقدية، ومن أشهر أعمدتها. في النقد ج.هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم)، هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي، ويعتمد التفكيك على آليات الهدم والبناء من خلال القراءة ويستخدم « للدلالة على نمط قراءة النصوص بنسف ادعائها المتضمن أنها تمتلك أساساً كافياً ....»إن مصطلح التفكيك يعتمد على الهرمنيوطيقا الذي يمارس من خلاله القارئ تفكيك النص فالقارئ» يحدث عنده المعنى ويُحدثه، ومن دون هذا الدور لا يوجد نص أو لغة أو علامة أو مؤلف. ولذا فإن أي قراءة للتفكيك لا بد أن تبدأ بالقارئ، وتجربة القارئ التي لا يوجد قبل حدوثها شيء « فهو يفكك النص ويعيد بناءه على وفق آليات تفكيره. في المجموعة القصصية (لا تبيعوا أغصاني للخريف) للقاصة ملاك الخالدي من المملكة العربية السعودية (الجوف - سكاكا).
جاءت المجموعة صادرة عن دار الرواية في لندن 2011م حوت على ثلاثين قصة.
الاتجاه نحو المجموعة القصصية والولوج فيها من عتبة العنوان المشتمل على النفي بـ لا والفعل المضارع تبيعوا المجزوم للنفي الذي سبق فعل البيع الواقع على الأغصان في فصل الخريف، فالقاصة تهتم اهتماماً كبيراً بدخائل النفس البشرية وتتبع همومها فهي تمتلك مفاتح الخصوصية الفردية لكل شخوصها في أول قصة لها بدأت القاصة بضمير الغائب (كثيراً ما تحدثت عن ندواته، رحلاته، ومؤلفاته) فالمهندس عبد الله هو البطل الحقيقي لجلساتهن اليومية في الكلية، حيث تجتمع أريج ابنة المهندس والضمير السارد وميس للحديث عن المثقف المهندس وإعجابهن به لتظهر سوسن في مفاجئة المخلص (مسكينة أريج يا بنات لم تستطع نسيان والدها رغم وفاته قبل ثمان سنوات) ليتسع أفق التوقع للسرد في القصة الثانية (أكبر من الجرح) ليأخذ وظيفتين هما الأخبار والوصف فقد أخبرت القاصة عن هذا الشروح والتحدي لهذا المعاق وذي الساق الواحدة (أعرفه جيداً لن يمانع فيما لو طلبت منه مرافقتي، إلا أن قلبه الزجاجي المضيء سيتهاوى حين يرمقه أحدهم بنظرة عطف أو كلمة داكنة! أرجوك يا أمي لا تخبريه لأجله هو فقط !نظر إليها بعينين تكابران الدموع ودلف حجرته. كانت تلكم الكلمات المغتسلة بالألم تمتد إلى أذنيه تنطرح داخله كعصفور يحتضر أو كطوفان كالح، تشتعل الساعات المظلمة في ذهنه وأمام عينيه، تكاد تحرقه بسعف توهجها) فقد أتى السرد بمعنى التتابع ومجيء الشعور بالأحداث بعضه في أثر بعض فقامت القاصة بنقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورتها اللغوية عبر الأخبار بالوصف الشعوري لهذا البطل المعاق وفي القصة التي تحمل اسم المجموعة (لا تبيعوا أغصاني للخريف) بتتابع السرد عبر عتبة العنوان الذي يحمل دلالة الرفض والتمرد على حذف النون للفعل المجزوم بلا الناهية مع إثبات الواو الجمعية أما أغصان الخريف ليأتي الأخبار (بحثت عنه في وجعي في أنفاسي المنكسرة في دمعة الفجر الآسنة) لتلعب القاصة على وتر تيار الوعي كتقنية من تقنيات السرد وذلك بتقديم الجوانب الذهنية للشخصية الرافضة لكل ما لا يقبله عقل ولا يعترف به العقل الجمعي الواعي فقد صورة القاصة أحاسيس ومشاعر وذكريات وتخيلات هذه الفتاة المقهورة فاعتمدت على المنولوج الداخلي وهو حديث النفس (أهرب من قيودهم المثخنة بالملح، أبتلع انكساراتي، أخفي سوءتي وأمضي إلى حيث يتكاثر الأقحوان) إنها تقدم لنا لوحة المعاناة النفسية لتفرش الأحزان على قارعة الطريلخارطة شعورية واضحة المعالم (أنثر شيئاً من أحزاني على قارعة انتظاري وأشرع نوافذ الحنين) لتعبر بنا القاصة عبر تقنية الاسترجاع flash back لتكمل لنا صورة السينمائية لهذه الفتاة المقهورة (لم يكن بعيداً عن نبضاتي فانهمر في قلبي ترجل أمام عيني منحنى أملا وشهقته اجتاحت خلاياي الباردة .... أسرجته بلا مواربة رغم الموت المزروع في أعينهم رغم الخوف الذي اختارني لزمن باهظ! لا تبيعوا أغصاني للخريف)
ليأتي الحوار:
مع (زعيم الحي حيث يجلس وديعا أقصى الفناء يسرج ضوء عينيه في الشجيرات حوله) لجأت القاصة إلى الحوار التقريري القائم على تطور الأحداث في قصة زعيم الحي فالزعيم يجلس كحارس للحي يبصر أحمد المعاق الذي ولد بلا قدمين وحاتم الرجل الأربعيني الذي بترت ساقه اليمنى وصعوبة ظروف حاتم الأسرية ليحدث الألم النفسي لهذا المعاق عندما شاهد عصفورا بحرية تامة يقفز من غصن إلى غصن لتقارن الساردة بين العجز والصحة بين الانكسار والشموخ بين الحرية وبين القمع النفسي لزعيم الحارة الذي كان الحارس الأمين والمدافع عن ابنة الحاج إبراهيم والفتوة بعد أن بترت ساقه من أجل لقمة العيش فقد تراكمت عليه الهموم الفقر والمرض والفقد (وقعت عيناه على عصفور يقفز برشاقة فغاصت مخيلته في نهر نضب، هماك حيث أشجار الأثل والنخيل التي تلتف حول قريته )في هذه القصة قام الحوار على رسم للشخصيات الفاعلة في الفعل السري ( زعيم الحي - أحمد - حاتم) فقد احتوت تلك الشخصيات على طاقات تمثيلية تشعر القارئ بصدق الموقف وتعيشه في دلالة الحدث الممتد إلى قصة البلطجي، حيث تكرر اسم يوسف الطالب العنيف الكسلان والمنبوذ من الجميع بسبب العنف والشقاوة لتطرز القاصة ظاهرة العنف الأسري والفراغ الأبوي ( لن أدرس الصف الخامس مادام يوسف الشرير فيه وأخر يقول: لقد سئمت أفعال يوسف البلطجي لقد ضرب أحد التلاميذ بزجاجة عصير ويشتكي ثالث: لقد كسر المعوج يوسف زجاج النافذة) جعلتنا ملاك الخالدي أما مشكلة العنف في شخصية يوسف برغم من ضعف جسده لكن عنفه أقوى من أن يقاوم أحتار فيه المعلم والطالب والمجتمع فجعلتنا القاصة أما مشكلة حقيقية في المجتمع إلا وهي مشكلة العنف والقهر (استخدمنا كل الطرق . النصيحة . الترغيب . الترهيب . التهديد . استدعاء ولي الأمر. الضرب. حسم الدرجات .ولكنها لم تجد نفعاً) لتضع النهاية بهذه الجملة ( فالشوق لن يصبح ورداً) فقد دعا الحرص من القاصة على أن يكون الحوار ملائماً للشخصية فالكل في جو التعلم المدرسة فجاء الحوار باللغة الفصحى وبذلك يكون الحوار قد حقق شروط الواقعية اللغوية ومن هنا نجد أن الحوار للشخصية جاء على عدة مستويات مستوى لغة الأطفال ومستوى لغة الكبار ومستوى لغة المرأة، بل إن لكل جيل من الأجيال قاموسه الخاص في الحوار اشتغلت القاصة على هذه المستويات ببراعة شاعرية فلننظر (سأل محمد أحد التلاميذ وقت الفسحة: أين يوسف ... (يوسف طالب في الصف الخامس)
اممم تقصد الشرير يوسف
وأشار بيده إلى زاوية في أقصى يمين فناء المدرسة
تسأل في نفسه
هل هذا يوسف البلطجي أم ....
صمت،واستدعت مخيلته أطفال رواية البؤساء لفيكتور هوجو
تأنيث اللغة
تستمد المرأة عند ملاك الخالدي قوتها من السرد اللغوي ولا تجد غضاضة في تشكيل المرأة قوية عتيدة فقد أسهمت القاصة في تجنيس الخطاب السردي حيث ظهرت قيمة الجنوسة في الخطاب وهو نص أنثوي بامتياز فهو أشبه في حركته المراوغة بحركة الحية التي يتواتر ورودها في النص نجد في قصة (ابتسامة صفراء) صوت الأنثى مريم وصوت ضمير السرد وهو يحاول نبش الدرج السفلي في غرفة مريم بحثا عن أوراقها، لا أعرف لماذا تكتم ما تكتبه . نخفيه عن أعيوننا وأرواحنا )فمريم هي الأخت الكبرى فتاة حازمة وحاذقة في اللغة غامضة في البوح فسريتها المرتفعة جعلتني أتوق لقراءة سطر واحد أو حتى عبارة غير مكتملة الملامح مما تكتبه ) نحن هنا أمام لغة تمتاز بالتخصيب والإنجاب فالأفعال المضارعة التي تعايش الحاضر وتطرق أوتار المستقبل في (نبش. أعرف. تتكتم. تخفيه. أتوق. تكتب) في توالد للدلالات كعناقيد العنب المحملة بالوعي الذاتي من ضمير الساردة متحدثة باسم النوع محتفية بخصوصية المرأة في الاستلاد والإنجاب في المعادل الموضوعي للحياة والتوالد والنشوء والبقاء والاستمرار .
المجاز في السرد
يصف ريكور المجاز (بأنه يساعدنا على فهم آليات المعنى بقوله المجاز هو محصلة النقاش بين الإسناد والتسمية إذ لا ينتج المعنى إلا من خلا ل المجاز والمعنى هو علاقة قصدية بين اللغة وما تشير إليه وهذه الأشياء يفسرها المرجع ) فنرى الضمير السارد مع مريم الكاتبة والشاعرة والحازمة مع كل من يحاول اقتحام خصوصيتها بحثا عن أسرارها المخبؤة في الدرج المظلم لتأتي الجملة الكاشفة على لسان الساردة ( فقط أردت إقفاله .ارتسمت على ملامحها ابتسامة صفراء جعلتني أخرج أخرج من الغرفة ببضع قفزات ...أخبرت صديقتي المشاكسة منى فنصحتني بمواجهتها .. وقفت قبالها.نظرت إليها وقلت بتحفز وجل .مريم أريد أن أقرأ ما تكتبين )تظهر لنا ملاك الخالدي كصوت مقاوم للقوة والسلطة الاجتماعية وتتخذ من الحيل السردية ما تكشف به عوار الظلم والتحيز في قصة (انطفاء ) تلهث الساردة خلف العدل المجتمعي حتى أما الجنس الواحد تتساءل عن سبب حب أبله فضة لزميلتها رغد رغم أنها لا تتميز عنها في شيء ليظهر الصوت الثوري على الظلم القهري (في أحد الأيام غلبت خوفي، وانتصبت في مقدمة الطابور بعد دقائق قليلة وقفت رعد قبالتي ومن عينيها تنبعث نظرة استهجان علمت ما لديها فقلت وهل هو محجوز باسمك ومتى اشتريتيه حينها دفعتني بقوة وقفت مكتني كدت أن أعيدلها فعلتها إلا أنني رأيت أبله فضة مقبلة فتراجعت ..لم تكن رغد محبوبة أبدا فهي لا تتحدث إلا مع ميس ابنة مديرة المدرسة) في مشهد سينمائي درامي تصور القهر والظلم والخوف الذي مرجعه المحاباة لا العدل والإنصاف بين رغد والضمير السار
الثنائيات ذات المرجعية المتعددة
فبعضها مرجعه لغوي خالص، وبعضها مرجعه بلاغي خالص، وبعضها مشحون بأبعاد فلسفية أو نفسية أو أيديولوجية، ومن بين هذه الثنائيات، هناك ثنائية تتقدم سواها من الثنائيات، في المجموعة، هي ثنائية (المرأة - الرجل) (الذكر - الأنثى) وتوابعها: (الزواج - العزوبة) (الإنجاب - العقم) وحواشيها:
(الضعف - القوة) (الحب - الكره) ثم (الحياة - الموت).
وبالضرورة، فإن هذه الثنائيات سوف تشحن النص بكم وافر من التوتر الذي يتيح للمفارقة أن تحتل مساحة واسعة في السرد، سواء أكانت مفارقة صريحة أم ضمنية، وسواء أكانت ملفوظة أم ملحوظة، سواء أكانت موقفية أم حالية، وبالضرورة - أيضاً ـ فإن هذه المفارقة سوف تتخلي تدريجياً عن ارتباطها بهذه الثنائيات، لتحل في الأنساق الكلية، والوقائع الممتدة، دون أن يحجب ذلك الدور اللغوي لكل ثنائية.
وفي هذا المحور اللغوي، يفرض (الضمير) حضوره بوصفه أداة مركزية في بناء السرد، بل هو عنصر أساسي في تحديد النوعية، فالضميران (أنا - نحن)
في قصة (أنا) (أنا حزن جديد لفظه القدر حين تصحرت أرجاء المدينة من الغرباء)
وتوابعهما، يقودان النص إلي منطقة (الشعرية) حينا، وإلي منطقة (السيرة) حينا آخر، وربما لا يكون هذا ولا ذاك، وإنما يكون حضورهما علامة واضحة علي توحد المؤلف بالراوي الداخلي.
أما ضمير المخاطب (أنت) وتوابعه، فإنه يقود النص إلي دائرة (الحوار) المسرحي علي وجه العموم، والملاحظ أن هذا الضمير له صلة حميمة بمناطق التوتر والصدام، سواء أكان صدام مواقف، أم صدام شخوص.
معني هذا أن ضمائر (التكلم والخطاب) ليست من الأبنية الأثيرة في السرد، إذ إن الضمير الأثير لديها، هو (ضمير الغياب) هذا الضمير الذي أسماه البلاغيون القدامى (ضمير الحكاية).
في قصة نحيب التي اعتمدت القاصة على ضمير المخاطب وضمير الغائب وهو الحبيب المهاجر لمسرح الحب حيث ترك الألم والحسرة ببعده عن ضمير الخطاب (أراك تبتعد وما أجد شيئا أصنعه سوى تجرع الألم وتقيؤ الزفرات ليتك ترع عيني الحزينتين الملبدتين بالدموع أو تضع راحتك حيث ترقوتي النازفة أنينا !سأغمض عيني عن كل الوجود حيث خلودك وعذابي).
وغواية السرد مع ضمير الغائب، توازيها غوايته مع فعل الكينونة (كان) الذي يكاد يكون صاحب الحضور الأول في السرديات عموما، ولا يرجع ذلك إلي كونه فعلا مساعدا، بل إلي طاقته التي اكتسبها من مواضعته الأولى، ومن هوامش الاستعمال الممتدة في الزمن، فهو قادر علي فتح أبواب (الحدث) الماضي البعيد والقريب، وهو مشحون بطاقة تراثية اكتسبها من وظيفته في المرويات والحكايات، وهو قبل ذلك وبعده، له قدرة إنتاج (الحدوث والوجود والصيرورة والثبوت والوقوع).
استعملت القاصة ضمير الغائب في قصة (غربة) (ودع والدته وهم بالرحيل استوقفته رحيلكم مؤلم هناك سأجد نفسي إلى اللقاء.. كان من المفترض أن يكون حولي الآن لكنني لست متفلسف زير كتب غامض بالنسبة لهم وداعا).
وفي قصة حكاية الله مع الفقراء اعتمدت القاصة على غواية السرد بضمير الغائب للزمن البعيد والقريب في تذكر أيام البرد مع الجدة في الزمن الفائت في مقارنة صوفية بين الماضي والحاضر والحنين إلى حالة الرضا فثلاثة أرواح لا تصلح روح الإنسان في الأرض إلا بها روح الطبيعة في جمالها ورح المعبد في طهارته وروح القبر في موعظته عندما تتحدث الجدة
(حدثتني جدتي - غفر الله لها- عن فرحتهم آنذاك بالعثور على بعض الأعشاب بعد أن يقطعوا عشرات الكيلومترات فوق بهائمهم أو مشيا على
** **
- د. عمر محفوظ