محمد جبر الحربي
وأستطيع أن أقول إن علاقتي بالوقت أشبه ما تكون بعلاقتي بالشعر، كأنهُ هُوَ، بسكينتهِ وقلقهِ عبر الفصول، مع تقلبات النفس أكانت غارقةً في الحزنِ، أم غارقةً في الفرح، هذه القلِقلة المترددة دائماً في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، وقد كان الغالب عليها المغامرة والجنون والقليل من العقل في شبابها، وأصبح العكس صحيحاً مع الوقت، فحتى التجريب أصبح خاضعاً لمقاييس واعتبارات، قد تسقطه في العادي، أو فيما هو أقل من الطموح، ولكنها قد تمنحه الجودة والتفرد والخلود أيضاً عبر الخبرة والحنكة.
وهكذا أظل أراوح بين هذا وذاك، عائداً إلى الينابيع، أو صاعداً إلى السحابِ، منتظراً المطر مع يومٍ جديد، ينقلك على درجات، ومراجيح الوقت كيف يشاء، تارةً بسرعةٍ عجيبة، وتارةً بهدوءٍ مريح، وتارةً ببطءٍ وتكرارٍ ممل قاتل.
أي أن علاقتي بالوقتِ في النهاية علاقة شعرية ملونة، حتى في إنجاز الأعمال، هناك رغبة دائمة في حصار الوقت، وتأثيثه بألوانك الخاصة، بأناشيدك وأغانيك، وهناك رغبة في الكمال، أي في بذل الطاقةِ القصوى في أي عمل فني أو إداري، أو في أي حالةِ استرخاء، وإلا فكلنا يعرف أن الكمال لله.
وقد يكون ذلك أحد أسباب عدم استقراري الوظيفي: هذه العلاقة الشعرية بالحياة، هذه الحالمة المُحبة، تحفزها الرغبة في التفرد، والرغبة في تجاوز السقف الخفيض دائماً في كل عمل، الرغبة في الحرية من قيود الروتين والبروتوكول، والخروج على كل ما لا يترك للخيال مجالاً للابتكار والتجلي والإبداع..
إذاً هو الوقتُ دائماً، أولاً وثانياً وتالياً، إلا أن الانتظار بدءاً وانتهاءً هو سيد الوقت، وسيد الموقف، فهو الذي يقتل الشاعر، وهو الذي ينقذه في آخر لحظة، ولولا هذا القلق والتوتر، قلق الانتظار، وقلق الولادة، وقلق النشر، وما بعد النشر، قلق القصيدة، وقلق الديوان، قلق النثر وقلق الشعر لَتَسَيَّد الإهمال، وانطفأت جذوة الشعر، جذوة العملِ والإبداعِ أيَّاً كانَ المجال:
مضى الوقتُ لا عندي من الشعرِ خَمْرَةٌ
ولا جَمْرةٌ عندي يفِزُّ لها الشِّعرُ
وقد قادني الوقت كما قادني الشعر إلى مواطن خطيرة مريرة، ليس أصعبها الحزن، فللحزن أسبابه العظيمة ومسائله الكبرى، كالموت الذي هو نهاية الوقت الذي لا تدركه، والحياةُ التي أنت متشبثٌ بها، وهي لا تفلت منك، من يديك وأنت متمسِّكٌ بها، حريصٌ عليها «حرص الشحيح الذي ضاعَ في التُّرْبِ خاتَمهْ»، خائفٌ عليها كجَرَّةِ وقتٍ تحملها بعنايةٍ خشيةَ أن تسقط وتتناثر أجزاؤها، ثم هي فجأةً تسقط وتتحطم، وأنت تشاهد ذرات الوقت تتطاير من شظاياها حتى تمَّحي، أو هي تذوب وتتلاشى في الهواء مع إغماضتك الأخيرة، لكن المؤلم أن هذه الجرّة أو الآنية الفَخَّارية أو الزجاجية لا تُفلتُ منك أنت، فلربما حلت الرحمة وانتهت الرحلة، وأُسدِل الستار حينها، بل هي تُفلِتُ مرةً تلو مرةٍ مِن أحبِّ الناس لديك، في مشهدٍ يقتلك كل مرة.
إنه الموتُ المتكرر حد الألفة، وأنتَ الشاهدُ، والشهيد الذي لم يصعد بعد، شهيدُ الحب، حب الأهل الذين هم أساس الأوطان ونخلها، والأوطان التي ما تفتأ تفلتُ من بين يديك، وتضع حداً لآمالٍ وأحلامٍ تعلقت بها بشدة، ولا تستطع أن تتذكر كم مرةٍ ودَّعتَ وفقدتَ ورثيْت..!
وهل هناك أقسى من ذلك، موت الأهل والأحباب، وموتُ الأوطان وضياعها، عبر الحروب وويلاتها، وقد كانت الأرض السليبة على الأقل فيما نذكر ونعيش واحدة، ثم أضحت العواصم والأراضي السليبة تحتل أجزاءً كبيرةً من الخارطة التي في مخيلتك، هذه العواصم والدول التي تتساقط كما تتساقط أوراقُ خريفِ الوقت، عبر الحروب والهزائم والنكسات والخسائر، وهي من أشد الفواجع التي يطعنك بها الوقت بأسلحةِ البشر، حتى أصبح الفقد لكثرته قريباً ووشيكاً ومتوقعاً، بل حاضراً شئتَ أم أبيت، فهو المشهد اليومي المروّع الحاضر عبر التقنية المزروعة حتى في غرفة نومك.. فلا مفر، وهو الحاضر عبر الوسائط، ورسائل الجوال، وأنت المحاصر، وأنت الشاهد في كل مرة، حتى ألِفت الحزن الذي يبعثه، والذي أصبح هو الآخر من ملازمتهِ لك شبيهاً لك، بل هو بالفعل قد انصهر فيك حتى شكل ملامحك الجديدة، وإذا ما كان الحزن أحد المحركات الأولى للشعر، فهو انعكاسٌ لكل تلك الفجائع، لفعلِ بناتِ الدهر، كما يصف المتنبي، فيك أو في أهلك وأحبابك، أوطانك:
أبِنْتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ
فكيفَ وصلتِ أنتِ منَ الزِّحامِ
لكن الفقد وما يصحبه من حزنٍ وما يتلوه، يتغير وقعه، وتخف وطأة فجيعته مع عاملين مهمين هما الوقت وما يحمله من عوامل النسيان، والإيمان وما يحمله من قيم الاستسلامِ والقبولِ والصبر.
فالمصائب قبل سن الرشد، وقبل فهم القبولِ عبر الإيمان العميق أشذُ وقعاً منها بعد الرشد.
وهي لا تختلف عن كونها فاجعة قبل أو بعد الرشد، لكننا نتجاوزها وقد ثبت الإيمان ورسخ، فكان الصبر والقبول، ومع ذلك، فإن ذلك خاضعٌ لحساباتٍ أخرى، تتعلق بالشخصية والنفسية والحالة الصحية أيضاً وكلها أثَّر فيها الوقت بدقائقِه وثوانيه.. أثَّر فيها بعقاربه..!
فهناك من لا يعودون كما كانوا أبداً بعد تجارب الفقد..
ولقد كانت تجاربي مع الوقت والفقد كارثية منذ الطفولةِ الأولى، فقد الأهل والأصدقاء، وفقد الأوطان، وفقد المثل والقيم التي تتساقط عبر العالم، فقد الأخلاق التي تشاهدها تهوي إلى القاع، وفقد الثقافةِ التي تم تتفيهها، وتغيير معانيها العميقة، لتتحول مع الوقتِ إلى سلعةٍ استهلاكية سريعة العطب، سلعةٍ مزيفةٍ تفسد الذوق العام، وهي تشبه الأغذية والمشروبات الضارة كالهامبرجر والكوكاكولا، تدعمها قوى مالية وإعلامية ودعائية، حتى أصبح ما ينبغي أن يوضع في سلة المهملات، يتسيد المنصات والشاشات، وكثر المؤثرين والمؤثرات من التافهين والتافهات، وبات كل ذلك يشكل خطراً حقيقياً على الهوية والمجتمع، على اللغة والثقافة والإبداع، وفي كل يوم يزداد الضياع والفقد، ويصبح الوقتُ مؤلماً إن لم تستطع أنت أن تنتشله من القاع، وتضعه حيث ينبغي أن يكون، أو تحب أن يكون، كأن تهرب به بعيداً عن كل هذا التلوث المقيت.
لقد تعلمت من الفقد بمعانيه المتعددة، والحزن الذي يتفتق منه ومعه، أن أجد وسيلة للتعامل معه، أو التحايل عليه، أو كيف أصاحبه، كيف أجعله كائناً أليفاً لا وحشاً كاسراً، كيف أمنعه من الوصول إلى درجة الكآبة السوداء المعطِّلة للحياة بكل معانيها من عمل وعطاء وإنجاز وإبداع وما يخلق كل ذلك من نجاح وراحة وسعادة، تلك الكآبة المدمرة للأرواح، والعقول الجميلة.
لقد قررت منذ وقتٍ بعيد أن أناضل وأحارب وأنتصر، أنتصر على النفس، وعلى الحزن، وأن أحارب القبح بالجمال، والكره والحقد بالحب، والحزن بالعمل والكتابة، والأعداء ممن يحاولون قتل روحي، والتقليل من شأني، أو شأن إبداعي، بمزيدٍ من الإبداع والنجاح.
لقد صرفت وقتي في تكريس الخير والحب والجمال، وتعلمت ألا أصرفه في الرد على أصحاب القبح والكره والحسد والسواد. وذلك لأنه وقتي، وقتي الثمين، فهل سأصرفه في كتابة المقالات تلو المقالات للرد على هذا أو ذاك من سقط المتاع الذي يتكاثرون كالذباب، من كارهي الحياة والجمال من أصحاب السواد، أم سأصرفه على الإبداع، وفي ذلك الرد الحاسم القاتل.
نعم لقد حاربتُ بالحبِّ وانتصرتُ بفضل الله، بقوة الإيمان، وبالصبر على الأذى، وبالإبداع:
حَارَبْتُ بِالْحُبِّ حَتَّى عَادَ مُنْتَصِرَاً
لَا يُهْزَمُ الْحُبُّ طَبْعُ الْحُبِّ غَلَّابُ
فَالْحُبُّ سِدْرَةُ إِيمَانِي، ومُهْجَتُهَا
مِحْرَابِيَ الْحُبُّ مَا لِلْكُرْهِ مِحْرَابُ
لَمْ أَعْرِفِ الْكُرْهَ طِفْلاً فِي مَتَاهَتِهِ
وَلَا عَرَفْتُ وَأَهْلُ الْبَيْتِ قَدْ شَابُوا
حَتَّى كَبِرْتُ فَصَارَ الحُبُّ مَدْرَسَتِيْ
وَالرِّفْقَةُ الدَّرْبُ وَالْكُرَّاسُ وَالْبَابُ
الْبَيْتُ وَالحَرْفُ مُرْتَادِي وَمُعْتَكَفِيْ
وَالنَّاسُ بِالنَّاسِ أَنْسَابٌ وَأَصْحَابُ
بِالْحُبِّ تُورِقُ أَرْوَاحٌ بِغُرْبَتِهَا
وَتُستَعَادُ وَعَزْفُ الرُّوحِ زِرْيَابُ
كَمْ كُنْتُ أَحْسَبُ أنِّي تَائِهٌ أَبَدَاً
أَنِّي غَرِيبٌ.. وَكُلُّ النَّاسِ أَغْرَابُ
حَتَّى عَرَفْتُ غَدَاةَ الرُّشْدِ مَنْزِلَتِي
أَنِّي حَبِيبٌ.. وَكُلُّ النَّاسِ أَحْبَابُ
مَا أَعْظَمَ الْحُبَّ وَالْإيمَانَ فِي لُغَتِي
لَنْ يُهْزَمَ الْحُبُّ.. طَبْعُ الْحُبِّ غَلَّابُ..!
ولا شك أن النظرةَ للوقتِ تختلفُ مع تدرج العمر، ونضج التجربة والأفكار، مع المتغيرات، وقد قلت بعد بلوغ الرشد:
أَوَقْتٌ كَمَا أَبْدَيْتُ نُصْحَاً لِجَاهِلٍ
كَوَقْتٍ بِمَا أَبْدَيْتُ لِلنَّاصِحِ الْجَهْلَا..؟!
وقد يكون الوقت ساكناً ميتاً حتى يحدث أمرٌ ما، أكان خفيف الوطءِ جميلاً، أم كان ثقيلاً نهايته مؤلمة تعيد الوقت لمواته، وهذا من ديوان «خديجة»، الذي لم يقرأ كما يفترض فيما أعتقد، ولذلك أسباب وأسباب، كما هو الحال مع مجموعة «الأعمال الشعرية» التي تضم سبع مجموعات شعرية، يمكن أن تعتبر تأريخاً لحركة الشعر الحديث في المملكة، والتي رفضت عدة جهات ثقافية طبعها بحجج واهية، وكذلك بخلت عليها جهات أخرى بالنشر، نشر ولو خبر.. ولا نقولُ دراسةً أو قراءةً، فمن من هم هؤلاء الذين لا وقت لديهم إلا للهدم، والافتراء..!
ثم يأتي من يقول مات الشاعر محمد جبر الحربي، أو ماتت حركة الشعر، أو اختفى «شعراء الثمانينات»، وفي التسميةِ ظلمٌ، كما في تزييف التاريخ والواقع.
كل هؤلاء لا وقتَ في الوقتِ لديهم للقراءةِ والبحثِ، فهم في سكرةِ ماضيهم يعمهون..!
ولكن دعنا منهم، دعنا، قبل أن يسرقنا الوقت، ولأعد للوقتِ الكتابة الجميلة، أكنتُ غارقاً فيه في التأمل، أم كنتُ غارقاً هناك بين الحقيقةِ والخيال:
قَادِمٌ مِنْ بَعِيدْ.
بِرْكَةُ الْوَقْتِ هَادِئَةٌ
ثُمَّ،
تَرْمَينَ بِي حَجَرَا.
بِرْكَةُ الْوَقْتِ مَاثِلةٌ لِلدَّوائِرِ
وَالْقَاعُ يَمْتَصُّنِي.
سَابِحٌ نَحوَهُ،
سَاكِنٌ لَا أَحِيدْ.
وَسَارِحَةٌ أنْتِ مِثْلُ الدَّوَائرِ،
لَمْ تَتركِي أَثَرَا.
** **
- جميع المقاطع الشعرية للشاعر كاتب المقال، إلا ما أشير إليه.